08-يوليو-2020

كسرت انتفاضة تشرين الركود السياسي الذي خلقته المحاصصة (Getty)

نعيش في زمن اللادولة، زمن ينحر به الطواغيت الأوغاد وأحزابهم الفاسدة كل الذوات الوطنية ليغرقوا البشرية بالاستبداد والاستلاب والقتل والخراب، زمن تتحكم فيه مجاميع قمعية تدعي امتلاكها للحقيقة وذات مهمات إلهية  شأنها شأن الحركات الأصولية وأسياد الإقصاء والتفريق وتوالد النزاعات، يظهرون العداء لكل ما يخلق شروط الإصلاح بعقلية الشراكة ولغة التوسط ومنطق التحول. ما يجري اليوم من أحداث تمارسها جماعات منفلتة تفتك بالمجتمع العراقي ونسيجه، وخلق المزيد من الشحن والتعبئة وانحسار مساحات تطبيق القانون وعودة حلم بناء دولة المواطنة إلى نقطة الصفر، وهيمنة المجاميع المسلحة الخارجة عن القانون، أصبحت الدولة أمام خيار واحد، الدولة واللادولة في حال اختيار الأول يتحتم عليها  تغيير دفتر الشروط وإعادة ترتيب الأولويات وخلق البدائل، وبناء المعادلات، والإتيان بما هو غير مسبوق، ولا سبيل أمام العراقيين للخلاص من هذه القيامة الأرضية سوى النزول إلى الشارع  والانخراط في الاحتجاجات والتظاهرات الجماهيرية، وهذا بالطبع، بعد أن تنتهي جائحة كورونا من أجل الضغط على الحكومة وأصحاب الشأن لاجتراح الحلول والمخارج التي لطالما نادى بها الحراك الجماهيري ولا زال، ودفع ثمنها سيول من الدماء التي أريقت على مذبح حرية هذا الوطن ووضع الحياة على سكة مسارها الصحيح.

من مميزات الشباب الذين انتفضوا في تشرين أنهم يشعرون بمسؤولية إزاء القضايا الوطنية الكبرى التي عجزت النخبة السياسية عن إصلاحها

 اليوم الاحتجاجات والاعتصامات هي النافذة الوحيدة التي تجعلنا نلتقي بوجه الوطن الذي ننشد، وطن بلا أحزاب عقائدية متطرفة تغلغلت وسيطرت على كل مفاصل الدولة، وطن بلا طائفية ولا قمع، بلا فساد ولا تمييز. نريد عالمًا أكثر صلاحًا وجمالًا وتعايشًا، وبنيات صادقة ومتحمسة ورؤى حيوية منضبطة بالأطر الوطنية والأخلاقية لإعادة ترميم المفاهيم الوطنية التي شوهتها هذه الكائنات الممسوخة حتى تآكلت، وخنقت الأمل وكبلت العزيمة التي سيفك قيدها الأحرار بإصرارهم وعزيمتهم وتكاتفهم في جعل العراق جسرًا وليس ساحة للصراع، كما حولوه اليوم المتكالبين على ثرواته وإصرارهم الكبير لتصفية كل القوى الوطنية، وإعادة إنتاج الأزمات التي يتغذون منها، وبما يضمن بقائهم حتى انهاك المجتمع داخليًا للحيلولة دون ازدهاره، وتأكيدًا لضمان تواجد الدول المستفيدة لمدة أطول من خلال أجنداتهم في الداخل.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين: البحث عن ممكن

في هذه الظروف العصيبة يتوجب على كل عراقي حر شريف أن يضع في أعلى سلم أولوياته التخلص من هذه الزمر الفاسدة، بالضغط على مراكز القرار والمشاركة بالحراك الجماهيري، وخاصة صفوة المجتمع ونخبه انطلاقًا من مسؤوليتهم الكبيرة في واجب رسم دروب الحرية، التي خطها أبناء تشرين ليستحقون أوسمة الشرف لمواقفهم الفذة، وشجاعتهم التي تعجز اللغة عن وصف مضامينها تجاه هذه الملحمة الوطنية التي تبغي استرداد الوطن من سارقيه، كما على الجماهير التي طالتها مخالب البطالة، وسحق الكرامة، توظيف إمكاناتها لدعم مثل هذه الاحتجاجات الجماهيرية، لاسترداد الحقوق المنهوبة والكرامة المسلوبة، وبأعلى مستويات التحضر والسلمية. هذا السلاح الفتاك الذي يرهب الطغاة أكثر من الرصاص الحي الذي هشم رؤوس الأحرار، ولم يمنحهم الموت رؤية تحقيق أحلامهم في سقوط حكومة القناصين، أحلامهم التي تحولت إلى أفكار ومنهاج حياة للكثيرين من الشباب، والتي بدأوها بفتح الدروب الآمنة للعدالة، لكن الوقت لم يمهلهم مدة أطول لتعبيد هذه الدروب، فعبدوها اليوم أيها الأحرار وفاءً لهم. إن أحزاب الفساد لا زالت تسرق حقوقنا وتوهمنا بترشيقات إصلاحية شفوية مرة وبإعطاء مكارم وهبات مرة أخرى مدفوعة بوهم الحفاظ على ما تبقى من ماء وجهها إن وجد لإطالة أمد البقاء. 

هذه الأحزاب التي لا تكف عن المتاجرة بأدمغة البسطاء تترك جانبًا الحلول الجذرية لتلهينا عن التفكير بأمهات القضايا الوطنية. لا نأمل من هذه الحكومة برئاسة مصطفى الكاظمي أن يعمل بجدية عالية مع الاحتجاجات الشعبية كما يجب، ولو كان صادقًا في تعاطيه مع إفرازات الواقع ومطالب المحتجين، لمارس سياسة كسر الحتميات المقفلة وإعادة ترتيب الأولويات عبر التمترس بسياسة فكرية جديدة، لا التمسك بعنجهية من سبقوه بتحويل كيان الدولة وكأنه ظاهرة صوتية فقط، والتي تناغي موقف الاتحاد الأوروبي وصمته المخجل أمام سياسة التكالب والشراسة، وأكتفوا ببيانات واستنكارات بلا حياء أثناء قتل أبناء تشرين، وهذا خير دليل على خذلانهم وتآمرهم، مما ساعد مافيات السرقة والقتل الممنهج في الاستمرار على نهجهم البربري. عكس سياسة المنتفضين التي تبنوها والمتمثلة بتوزيع خيرات هذه البلاد للعباد وأعادت القانون للوظيفة بعد أن خرج عن الخدمة منذ قرابة 18 عامًا، لكن ما يدعو للبؤس ويبعث على الأسى، لم تنصف بعض الجماهير أو الصفوة فيه ومراكز القرار غير الحكومية هذه الاحتجاجات، وكان موقفهم سلبيًا ومخزيًا تجاه انتفاضة تشرين، إضافة إلى دعاة القهوة، عفوًا التحرر، الذين كانوا يجلسون على مقربة من ساحة التحرير كظاهرة سلوكية شعبية اجتماعية حداثوية ومعطياتها التي تختلف عن كافة باقي الاحتجاجات.

 كونت هذه الاحتجاجات فضاءات مغايرة مع مناخات خصبة، وجماهير عجنت عذاباتها مع تجربتها حتى فتحت الدروب الآمنة من أجل أسترداد عافية هذا الوطن، وتوفير الحياة الحرة الكريمة عن طريق معالجات ومقاربات مدركة لإرهاصات الماضي والحاضر ومستشرفة لآفاق المستقبل، وسط هذه المحن والويلات نجح الحراك الجماهيري الوطني في تمزيق كفن الظلمة لينسج من بشائر فجر الخلاص جدائل الإنقاذ، في وقت يلف الصمت عار المتخاذين والمهادنين، بل أخذوا يتناولون قضية الحراك من منطلقات سطحية ثأرية تنظر إلى الآخر الحر بمنظار ضدي وعدائي، كاشفين عن خوائهم وعدم قدرتهم على تنشيط الراكد من الفكر والالتحاق بركب التغيير. هنا يكمن سر قوة الفتية التي أرعبت صدورهم العارية حكومة الطغاة، لأنهم بنكهة هذا الوطن وبلا توابل إقليمية ودولية، جماهير غير مستلبة من أي جهة، ولم يصنع قدرها أحدًا بمعزل عن وعيها وإرادتها الأمضى، جيل على قدر عالٍ من المسؤولية تجاه أمهات القضايا الوطنية من هوية وثقافة وتعايش ومواطنة وإصلاح جذري للخراب الذي ترك الأثر البالغ في جسد هذه الأمة، لعنة الانتماء لغير الوطن لا تفارق خطاباتهم، تاركين وراء ظهورهم هوياتهم الفرعية ليختاروا بمحض إرادتهم مصيرهم المنشود تحت راية وخيمة واحدة اسمها العراق، هذا ما تؤكده الشعارات المرفوعة البعيدة عن هيمنة الأحزاب الإسلاموية، وقيود تسلطهم. جماهير لا يهمها إرضاء أي متبع، ولا تسمح لأي أحد أن يهيمن عليها وترفض وصايا أي أحد يصادر بها دورهم العقلاني والتنويري، مع تأكيدهم على عدم إقصاء الآخر المختلف بقدر ما تستدعيه لإعادة النظر بسياسته لوضعها في المسار الصحيح، هذا التنوع في جمهور المنتفضين هو سر قوتهم وتمييزهم وصمودهم وصبرهم، حيث أدركوا أن سياسة إيكال التهم ولعبة التلفيق والتخوين يراد منها الهائهم عن قضاياهم الرئيسية، لأنها تدرك إرهاصات الماضي وأزمات الحاضر وضرورة استشراف آفاق المستقبل، من خلال الوقوف في الموقع الأكثر تقدمًا وتعبيرًا لمشكلاتها لتعجل في شفاء جسد حياتنا العراقية، المنقوشة عليه ملاحم لا تنتهي من الهول العابس ومداد الشظايا والدم والأنين بفعل الفقدانات المتكررة بلا طائل.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

انتفاضة تشرين.. صوت المستقبل

رسالة إلى شاب عراقي