26-أكتوبر-2022
النظام السياسي في العراق

بلغت أرقام الفساد نسبًا مخيفة لا يمكن للمنطق أن يستوعبها (فيسبوك)

"أيها الإخوان: إن الجيش هو منكم وإليكم، وقد قام بما تريدون وأزال الطبقة الباغية التي استهترت بحقوق الشعب، فما عليكم إلا أن تآزروه، في رصاصه وقنابله وزئيره المُنصبّ على قصر الرحاب وقصر نوري السعيد". بيان قاسم وعارف-1958. 

"السلام عليكم أبناء الشعب.. أيها الضباط يا أبناء الشعب إن نفرًا من أذناب الاستعمار وبعض الخونة الغادرين والعسكريين من أذنابه يحاولون الانقضاض على جمهوريتنا.. ولكن شعبنا المظفر، شعب 14 تموز واقف لإنزال الضربات الخاطفة بهم وبأذناب العهد المباد والخونة. أبناء الشعب: إن النصر معنا، وإننا مصممون على سحق الاستعمار وأعوانه.. فلا تلتفتوا إلى الخونة والغادرين.. فإن الله معكم وسوف يعلم الدساسون.. سوف يعلمون عندما توجه الضربات الخاطفة إليهم.. وقد بادرنا بتوجيهها إليهم.. الله ينصركم أبناء الخير الغيارى.. أيها الضباط: اسحقوا الخونة الغادرين اسحقوهم.. إنني عبد الكريم قاسم.. وإننا أقوى وأشد عزمًا في سبيل الفقراء والنصر لشعب العراق". "8 شباط/1963، بيان عبد الكريم قاسم الذي لم يسمعه العراقيون". 

لا يمكن لأي حضارة، أو مجتمع، أو سلطة سياسية، أن تستمر حين ينتشر وباء الانحطاط الأخلاقي. الانحطاط الاخلاقي هو بداية الاستدراج. بداية لكل فجيعة وكارثة سياسية. الفساد السياسي، والمالي، والإداري، انهيار منظومة القيم، وتفشي روح اللصوصية في المجتمع، والتسامح مع السرّاق، هو بداية النهاية لكل سلطة سياسية واجتماعية مهما كانت مصادر أمنها وقوتها العسكرية. احتقار الشعب والرقص على جراحاته، هي أعلى الذروة يمكن أن يصلها الانحطاط لنظام سياسي، ومن ثم تقوده سوء أفعاله إلى نتيجته المحتومة. 

ما حصل في نظام ما بعد 2003 لم يحصل في تاريخ العراق الحديث والقديم ولا في تاريخ العالم أجمع

النظام السياسي الذي ينصب العداء للشعب، أو على أقل تقدير، النظام الذي يساء فهمه من قبل الشعب، أو النظام الذي يستهتر بعواقب التاريخ ويحتقرها ولا يقيم لها وزنًا، لهو نظام يحمل حبل مشنقته بيده، نظام يحفر قبره بيده، وسينتهي به المطاف في هامش التاريخ، لا يُذكَرُ منه شيء سوى آثامه المُرَوَّعَة تجاه شعبه. فلنتصور الكيفية التي يكون فيها النظام السياسي في وضع العدو؛ عدو لشعب مثل الشعب العراقي، شعب شديد العدوانية واللاتسامح مع أعداءه السياسيين، وسيستخدم كل السبل للتنكيل بهذا النظام، مهما طال أمد حكمه، واستهتاره بمقدرات الناس ومضاعفة أحزانهم.

وهذا ما علمتنا إيّاه وقائع التاريخ السياسي العراقي، حيث تتبخر النخبة السياسية في غضون أيامٍ معدودات، ويقضي، البعض منهم، هاربًا، ما تبقى من أعمارهم في ديار الغربة، أو يطالهم العقاب العظيم، ويتم التنكيل بهم، وتمزّقهم الجماهير شر مُمَزَّق،  وتتناثر جثثهم في الشوارع. مثلما حدث، بشكل مُرَوِّع ويدعو للأسى، مع ولي العهد فيصل الأول، ووصيه عبد الإله، الذي تم إحراق جثته ورميها في نهر دجلة، ومثلما حدث في النظام الجمهوري مع عبد الكريم قاسم وضباطه، وإعدامه في مقر الإذاعة، وتم التمثيل بجثثهم، ومثلما حدث مع صدام حسين، وتمت مطارده أعوانه، فقضوا قتلًا وتنكيلًا وهروبًا. أما صدام حسين فقد طاله العقاب، هو وحاشيته المطلوبة للاحتلال الأمريكي، وتمت محاكمته علنًا، ومن ثم أُعدم بطريقة ذليلة ومهينة، تعمّد فيها القائمون على الأمر ببث فديو يظهر صدام حسين وهو على حبل المشنقة، بوجه شاحب، ومظهر رث، ولحية طويلة، كما لو أنه أحد المتسولين.

وبصرف النظر عن الجدل الذي يثار من أجل المقارنة بين النظام الملكي والجمهوري في العراق، فإنّ نهايتيهما كانت مأساوية ومهينة بحق، ولم تحدث وقائع مماثلة، وبهذه المشاهد الدامية والمريعة، في المشرق العربي مثلما حدث في العراق: الملك دُفن بعد التنكيل به، أما وصيه، ورئيس وزراءه، تم سحلهما في الشوارع، وعُلِّقَت جثثهما لاحقًا من قبل الغوغاء، وهي أفظع جريمة يمكن أن تحدث لنظام سياسي. عبد الكريم قاسم وضباطه، الذين أطاحوا بالنظام الملكي، تم إعدامهم بطريقة، كما لو أنها عاقبة حتمية نتيجةً لما فعلوه بالنظام الملكي، وهي على أي حال، كيفما اتفق، لا تليق برئيس جمهورية، أو على الأقل لا تليق بزعيم له تاريخ عسكري مشهود، انقلب عليه رفيق عمره (عبد السلام عارف).

هذه المشاهد التاريخية الثلاث المروعة، التي هزّت تاريخ العراق من شماله إلى جنوبه، ظلت شاخصة في ذاكرة العراقيين، ذاكرة مغموسة بالحديد والنار، والدم والدموع، وكانت بحق من أفضع الوقائع السياسية التي شهدها تاريخنا السياسي الحديث. رجالات العهد الملكي، ورجالات العهد الجمهوري، ورجالات البعث، وسقوطهم، والتنكيل بهم على التوالي كقطع الدومينو.

حل نظام سياسي جديد في العراق بعد سقوط سلطة البعث: نظام حكم الطوائف، والعوائل، ولا نريد الإسهاب في هذه البديهة! وما حصل  في هذا النظام لم يحصل في تاريخ العراق الحديث والقديم! لا بل لم يحدث في تاريخ العالم الحديث. أكثر من ذلك: لم يحدث في تاريخ البشرية منذ خلق أدم! وقد بلغت أرقام الفساد نسبًا مخيفة لا يمكن للمنطق أن يستوعبها، وستظل الأجيال اللاحقة تستفهم حول الدوافع الأساسية لنخبة حاكمة توفرت لديها كل سبل الرخاء، وتدفقت لخزينتها ثروات لم يحظَ بها العراق طوال تاريخه السياسي، وتم الانتصار لهم بعد أن كانوا محرومين من المشاركة في القرار السياسي طيلة عقود، لكنهم أصروا على تدمير العراق، ونهب ثرواته، بحيث يبقى العقل البشري حائرًا للعثور على تفسير مقنع إزاء ما يحصل: هل هو حلم أم حقيقة؟! هل يدرك هؤلاء ماذا فعلوا؟! لماذا يعتقدون أنهم استثناء مما قد يحصل في المستقبل، وأن يكون مصيرهم مثل مصير الأنظمة السياسية، التي تعاقبت على حكم العراق، وانتهى بها الحال مسحولة في الشوارع، ومُعَلَّقَة على أعمدة الشوارع، ومرمية في النهر، وتم التمثيل بجثثها، والتنكيل بها أمام شاشات التلفزيون؟ سؤال سيطاردنا طالما نحن على قيد الحياة في هذا البلد اللغز.