لا أعرف متى يأتي هذا اليوم، لكنني مدرك أن الوقائع يمكنها أن تؤدب الناس بشرط إدراكها وتوظيفها جيدًا. بمعنى أن الصيرورة ليست ضربة ساحر. الشرط الأساس في النجاح هو احترام العواقب، أن تظهر كوكبة من المفكرين، وكوكبة من السياسيين المستنيرين. لا ينحصر الأمر تمامًا بنوعية المجتمع. قد نجادل بعمومية وفضفاضية حول جودة هذا المجتمع أو ذاك؛ حول التقاليد البروتستانتية الأوربية، أو أخلاق الساموراي اليابانية، أو الأخلاق الكونفوشية الصينية، باعتبارها ساهمت بشكل فعال في التنمية وبناء المؤسسات. هذا صحيح بشكل عام. لكنه يمثل نصف الحكاية، ذلك أن المزيد من التعليم والتدريب يمكنه أن ينتشل المجتمعات من براثن الجهل والخرافات المتأصلة. أعطني شعبًا متعلمًا أعطيك تنمية وازدهارًا. ربما سنقع في جدلية أسبقية البيضة والدجاجة ونقول، من يسبق من: النخبة السياسية أم المجتمع؟
مفهوم العيش المشترك يستدعي المواطنة وهذه الأخيرة تستدعي القانون
على الرغم من أن حركة الوجود لا نقطة مرجعية لها، وأن ظهور وحركة الأشياء يجري بصيغة اعتمادية؛ كل الأشياء تعتمد على بعضها البعض، والوجود الاجتماعي لا يشذ عن هذه المعادلة، فهو يتفاعل، وينقبض وينبسط، وينفتح وينغلق، ينحط ويزدهر، اعتمادًا على الوقائع السياسية، وهذه الأخيرة يجري عليها ما يجري على المجتمع من حيث كونها ليست نقطة مرجعية متأصلة. لكن من باب العلل القريبة، والوقائع الملموسة، ولكي لا يتحول النقاش السياسي والاجتماعي إلى تجريدات وعموميات غامضة، يمكننا أن نتلمس تاريخيًا أن التغييرات الكبرى لا تحدث ضمن الإيقاع الاجتماعي الرتيب والبطيء، لا يمكن لأي مجتمع كان أن يحدث نقلة نوعية أو ينشد التغيير بعفو الخاطر. فهذا المجتمع المزعوم سينتهي أمره إلى شقاق، ويتحول أفراده كما الضواري يأكل بعضه بعضًا، وتفترسه الأنانيات الفردية، والمصالح الفئوية، وتمزقه روح الانفصال شر ممزق.
إن التغيرات الكبرى تحدث في اللحظة التي يحافظ فيها المجتمع على قواه الحيوية، وأعني بها بالضبط القوة السياسية المنظمة التي تترجم أماله وطموحاته، وتضبط إيقاعه وتصونه من هاوية الانزلاق نحو الحرب الأهلية، وتبني المؤسسات وتشيد بناه التحتية. إذا كان المجتمع هو الجسد فالنخبة السياسية هي الدماغ المفكر.
فبالتالي نخلص إلى نتيجة مفادها: إن التغيير سياسي قبل كل شيء، وما تلك الصيحات التي نسمعها دومًا لذم المجتمع ليست سوى سرديات شعبية، تنطلق من جهل مركب، ونرجسيات تعوم على محيط من الفراغ، تشتهي أن تجسد الواقع طبقًا لرغباتها الصبيانية.
لكن إذا رجعنا إلى الجذر الصحيح، وتطلّب منا أن نفكر بشكل سوي، سوف لا نسمع لا حسيسًا ولا نجوى من هؤلاء المتذمرين. بمعنى أنهم يختفون ويتبخرون أثناء التفكير الجاد النابع من الهم الأصيل.
بكل الأحوال لا يمنعنا هذا أن نطرز أخيلتنا بشيء من الأحلام، التي نسعى بكل ما أوتينا أن نترجمها على أرض الواقع، من خلال الأجيال الجديدة التي نراهن كثيرًا على عبورها لأمزجتها الشخصية، ولا زلنا ننتظر. وبنفس الوقت ننظر، نظرة عامة خالية من الأحكام النفسية، إلى المجتمع العراقي، بوصفه شعب ذو طبيعة مذهبية وقبلية لا يدرج مسألة الدولة ضمن أولوياته، ننظر إليه على أنه أنضجته التجارب إلى حد ما خلال عقدين من الزمن وبات يفهم جيدًا خطورة ومصيرية الاختيار السياسي. عقدان من الزمن كفيلة بتحريك القناعات السياسية بشكل عام، وهذا ما نلمسه من تذمر شعبي واسع النطاق تجاه المنظومة السياسية الحاكمة.لذا، وبشي من الحذر، يمكنني أن أمني النفس بهذه الصيغ المثالية: سيأتي يوم على العراقيين يدركون فيه أن الإيمان الديني لا يبني دولة، وإنما تبنيها الكوادر الإدارية، الكوادر التي تدرس وتتأهل في كبرى جامعات العالم.
وسيأتي اليوم على العراقيين يدركون فيه مفهوم العيش المشترك؛ إذ لا الأكراد يمكنهم الاستقلال بمعزل عن العراق فستغدو نهبًا للدول المجاورة ويقرّضونها بالمقاريض، ولا السنة يمكنهم الانفراد بهذه الميزة، فكلاهما لا يمكنهما العيش خارج حدود العراق الحالية. وسيدركون أن مفهوم العيش المشترك يستدعي المواطنة، وهذه الأخيرة تستدعي القانون. سيأتي يوم على الشيعة يدركون فيه أنهم لا تتوفر لديهم نظرية سياسية متكاملة عن الحكم، ولا توجد لديهم كوادر ونخب سياسية وإدارية بمستوى الطموح، وأن تكالبهم على السلطة لا يضمن لهم ديمومتهم على الإطلاق، وأن نظرتهم تجاه الدولة غامضة ومحيرة وغير محسومة؛ هل هي كيان حتمي أم مجهولة مالك؟!