24-سبتمبر-2021

مخالفة قانونية صريحة (فيسبوك)

ألترا عراق ـ فريق التحرير

لا تكاد تخلو قناة فضائية في العراق من برنامج مخصّص لعرض "الجرائم الجنائية" بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، ويظهر المدان في هذه البرامج، وهو يسرد تفاصيل "فعلته" ودوافعه، مع إجراء تمثيل لتنفيذه لما يطلق عليه بـ"الجريمة"، لكن حادثة المتهم البريء في بابل فتحت النقاش حول جدوى هذه البرامج والسلبيات الناتجة عنها، لا سيما بعد اكتشاف أن ما يسمى بـ"الجرائم" التي يشاهدها الناس عبر الفضائيات ليست جرائمًا بالمعنى الحقيقي، إنما هي خارجة عن طريق التعذيب الذي يكاد يكون ظاهرة في السجون العراقية، فضلًا عن منع معظم الدول لهذه الظاهرة قانونيًا وإنسانيًا.

تنتشر على الفضائيات ظاهرة نشر اعترافات المتهمين بقضايا مختلفة ويظهر فيها مقدم البرنامج بدور القاضي وضابط التحقيق

وسلّطت حادثة اعتراف رجل عراقي بقتل زوجته ورميها في نهر الفرات بمدينة بابل، جنوبي العراق، ثمّ عودتها إلى منزلها بعد أقلّ من شهر حيّة ترزق، الضوء على تأثير العنف والتعذيب اللذين يتعرض لهما المتهمون بالجرائم والمشتبه بهم من قبل الجهات الأمنية لانتزاع الاعتراف بالقوة، فضلًا  عن انتقاد ظاهرة نشر اعترافات المتهمين بقضايا مختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي أو البرامج التلفزيونية التي يتمّ تصويرها خلال عمليات كشف الدلالة والتي تجريها بعض الجهات الحكومية المختصة والقنوات الفضائية، وهو ما عده نشطاء طلبًا لـ"الشهرة وأرقام المشاهدات" على حساب كرامة المتهم وعائلته ومحيطه الاجتماعي. 

اقرأ/ي أيضًا: فضيحة "القاتل البريء" تتفاعل.. "تعذيب" ثم محاكمة أمام "قاض تلفزيوني"

وليست حادثة بابل هي الأولى في عرض متهمين لم يرتبكوا جريمة، ففي 18 كانون الأول/ديسمبر 2018، بثّت قناة العهد 2 الفضائية، التابعة لحركة "عصائب أهل الحق"، الحلقة 18 من برنامج "حواجز صمت"، بعنوان "قتلت زوجها بالاتفاق مع عشيقها"، ومن ثمّ رفعت الحلقة على منصّة يوتيوب، ليتمّ تداول هذه الحادثة على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، مع اتفاق الجميع على انكار تلك الجريمة، واتهام الجناة ودعوة الجهات القانونية باتخاذ أقسى العقوبات بحقهم، لكن تبيّن أن الحادثة فيها لبس كبير ولم يتمّ التأكد منها بشكل كامل.

وبدأت الحلقة بعرض نص المادة 405 من قانون العقوبات العراقي، والتي تنص "من قتل نفسًا عمدًا يعاقب بالسجن المؤبد أو المؤقت"، بعدها يظهر المتهمان بلقطة إخراجية دون أن يظهر وجههما، ثم يبدأ المحقّق باستجوابهما ليسرد العلاقة بين المتهمين وملابسات الحادثة، ثمّ تبدأ مقدمة البرامج بالحديث مع المتهمين وتستجوبهما بدل المحقق، ثم يذهب بهم كادر البرنامج إلى محل الحادث لإجراء كشف الدلالة أمام الكاميرا، فتنتهي الحلقة بالحديث مع ضابط في مركز الشرطة المسؤول عن التحقيق بتلك الحادثة دون إظهار وجهه، للحديث عن الإجراءات التي اتخذها مركز الشرطة فور تلقيه البلاغ بخصوص هذه الحادثة.

وبحسب الباحث علي البطاط، فقد تمّ الإفراج عن "المتهمين" بعد مرور فترة، بسبب تقرير الطب العدلي الذي اثبت أن وفاة من ادّعى البرنامج أنه قُتل كانت نتيجة المرض ولم تكن جنايةً، وأن الحلقة تمّ تصويرها نتيجة الضرب والتعنيف التي تعرّض لها المتهمون، مما اضطرهم إلى الاعتراف بجريمة لم يرتكبوها، كما أن المتهم الرئيسي بالقتل كان بعيدًا عن محل الحادث.

وينقل البطاط خلال حديثه لـ"ألترا عراق"، عن أحد ضبّاط وزارة الداخلية برتبة عقيد، أن "وزارة الداخلية والشرطة المجتمعية تلقوا بلاغات -بعد بث الحلقة وتداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي- بحالات ابتزاز من قبل النساء للقيام بعمليات قتل بطريقة مشابهة لما تمّ عرضه في الحلقة".

كما ظهر في أحد حلقات برنامج "خط أحمر"، الذي تبثه قناة السومرية أحد المراهقين، والذي قام باختطاف طفل وعمل على مساومة أهل الطفل للحصول على مبلغ مادي مقابل الإفراج عنه، وعند التحقيق معه، سأله المحقّق: "من أين حصل على فكرة هذه الجريمة؟"، فأجابه بأنه "تعلمها جرّاء متابعته لبرنامج خط أحمر، وكان الصوت واضحًا رغم محاولة القناة تشويشه أثناء نطقه اسم البرنامج".

وفي حلقة أخرى من نفس البرنامج تم بث تفاصيل التحقيق مع "عصابة" تقوم بطباعة العملة المزيفة في بغداد، وكان المتهمون يشرحون أثناء التحقيق المتلفز كيفية تصميم وطباعة العملات المزيفة وكيفية استخدام الأجهزة لغرض التزوير، بل وحتى تم ذكر أسماء الأجهزة المستخدمة وأسعارها، وأماكن بيعها، وكأن الحلقة كانت محاضرة مجانية يقدمها البرنامج لمن يرغب بتزوير العملة، وفقًا لعديدين.

ويعتقد فريق المعترضين على عرض "الجرائم" في برامج كشف الدلالة، أن وسائل الإعلام قد تصدر أحكامًا مسبقة على المتهمين من خلال المواقف الصريحة من الجريمة وأطرافها وربما اتخاذ موقف من القضاء، ومن ثمّ توجيه الرأي العام مما يؤثر على سير المحاكمة والنأي بها عن العدالة في طريقة التعامل مع المتهمين، حيث يتمّ في الغالب نشر أخبار الجريمة بصورة مغايرة للواقع بدافع التشويق، فيما يقوم بعض الصحفيين بنشر أخبار الجريمة دون الرجوع إلى المصادر الرسمية التي يمكنها تزويدهم بالمعلومة الصحيحة، ومن ثمّ تأتي أخبارهم ناقصة ومبتورة، فضلًا عن نشر "جرائم" قد تكون خارجة من التعذيب كما في حادثة بابل الأخيرة

ممنوع النشر!

وحول موقف القانون من نشر الجرائم عبر وسائل الإعلام، يؤكد القاضي صباح الداوودي، أن الولايات المتحدة وأوروبا التي تمتلك أنظمة قضائية وأجهزة تحقيقية قضائية متقدمة ‏يُمنع منعًا باتًا تسريب أية معلومات، فضلًا عن الصور التي تخص قضية أو حادث يكون ‏موضوعًا للتحقيق في جريمة ما ونشرها في وسائل الإعلام والاتصال العامة، لأن هذا بحسب القاضي "‏يشكل جريمة مستقلة أخرى بحد ذاتها، مع ملاحظة أن هذا المنع موجود في قوانين ‏معظم دول العالم ومنها القانون العراقي الذي نص بعض مواد قانون العقوبات فيه ‏ومنها المادة (235) و(236) على عقوبات الحبس والغرامة لمن يقدم على تسريب أو ‏نشر أية معلومات متعلقة في التحقيق في جريمة ما".

وينقل الداوودي في مقال اطلع عليه "ألترا عراق"، قصة حدثت في تشرين الأول/أكتوبر 2020 حيث "أقدمت امرأة المانية على جز عنق أطفالها الخمسة وفر ‏السادس منها وأخبر السلطات هناك بالجريمة المروعة، ‏ليهز خبرها المنشور كتابة فقط مشاعر الخلق عبر العالم كلّه، مستدركًا "لكن حتى يوم كتابة البحث لم يتمّ نشر أي صورة للجانية أو للمجني عليهم، وذلك لأن السلطات الألمانية والقانون الألماني مثل بقية قوانين الدول عبر ‏العالم ومنها القانون العراقي يمنع عرض هكذا صور ومشاهد، لأن ذلك إضافة لكونها ‏تشكل خطرًا وضررًا بالغًا على التحقيق في القضية المراد التحقيق فيها، فإنها "تشكل ‏جريمة أخرى مستقلة بحد ذاتها".

يؤكد قاض مختض أن برامج كشف الدلالة في العراق غير مقدرة النتائج والآثار السلبية

ويتابع الداوودي، أن "ما يحدث هنا في العراق هو أن لا أحد يأبه بهكذا ‏محاذير، أي أن الغالبية هنا تتشوق لمشاهدة العرض الممنوع، وفي الغالب يتولى بعض ‏الأشخاص داخل الأجهزة المختصة والسلطات المختصة عرض المحتوى الممنوع ‏ويتولى مخالفة القانون بنفسه في خطوة أقل ما يُقال عنها بأنها غير مسؤولة وغير ‏مقدرة للنتائج والآثار السلبية".

اقرأ/ي أيضًا: كيف ردت الداخلية حول تقارير وجود ضباط مختلّين "يتلذّذون بالتعذيب"؟

وحذر مركز الإعلام الرقمي، من انتقال "فورة" مواقع التواصل الاجتماعي لبعض الجهات في العراق عبر التشهير بالمتهمين قبل صدور الأحكام القضائية بحقهم.

وقال المركز في بيان، "نتابع بأسف تنامي ظاهرة نشر اعترافات المتهمين بقضايا مختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي أو البرامج التلفزيونية التي يتم تصويرها خلال عمليات كشف الدلالة والتي تجريها بعض الجهات الحكومية المختصة"، مضيفًا أنّ "الكثير من الصفحات على مواقع التواصل باتت تعمد إلى اقتطاع أجزاء من تلك الاعترافات لغرض الحصول على تفاعل ومشاهدات أكثر، وتأليف قصص حول المتهمين لاستثمارها بزيادة متابعيهم".

وشدد المركز، على "ضرورة إيقاف نشر اعترافات المتهمين الذين لم يصدر بحقهم أي حكم قضائي، خاصة قضايا الاغتصاب أو الابتزاز والتحرش والتي تضم قيمًا إخبارية تجلب قدر كبير من التفاعل".

ورأى المركز، أنّ "الكثير من الاعترافات يتم تسويقها بأساليب استفزازية على منصات التواصل الاجتماعي، تدفع المتابعين للتعليق عليها، وإعادة نشرها بصورة سلبية تتسبب في إدانة المتهمين ومحاكمتهم اجتماعيًا على منصات التواصل الاجتماعي، مما يلحق ضررًا بهم وتشهيرًا سيئًا يبقى يلاحقهم حتى لو حكم ببراءتهم فيما بعد".

ودعا المركز، الجهات القضائية المختصة إلى "أخذ دورها في الحد من عمليات النشر التي تحصل بين الحين والآخر والتي قد تتسبب بالتأثير على سير العدالة، والإضرار بحق المتهمين قبل أن تصدر بحقهم أحكامًا قضائية نهائية".

وأثار بث اعترافات متهم بريء انتزعت تحت التعذيب في بابل غضبًا كبيرًا ودعوات إلى مقاطعة نشاطات وزارة الداخلية إعلاميًا، فضلًا عن حملة أطلقها مدونون تحت وسم "#اوقفوا_برامج_كشف_الدلالة"، فيما تحرص وزارة الداخلية العراقية، وفقًا لمنتقديها على بث هذه البرامج لإظهار ضباطها بمظهر الأبطال، وتسجيل إنجازات "وهمية" على حساب معايير حقوق الإنسان وكرامة المعتقلين وعوائلهم، بتعمد التشهير بالمتهمين في مجتمع محكوم بالأعراف العشائرية.

عقوبات "صحفية" ضد وزارة الداخلية!

وعلى أثر "فضيحة بابل"، قدمت منظمة "إنهاء الإفلات من العقاب" توصيات بما يخص برامج كشف الدلالة، فيما طالبت بـ"إخضاع الضبّاط لفحص القدرات العقلية". 

ودعا بيان المنظمة، وتلقى "ألترا عراق"، نسخة منه، إن "قضية المواطن البريء الذي أُجبر على الاعتراف بقتل زوجته جديرة بأن تكون منطلقًا لإطلاق حملة تستهدف إيقاف التعسف والسلوكيات الانتقامية، داعيةً إلى "إيقاف برامج كشف الدلالة التلفزيونية".

ونقل بيان المنظمة إفادة قاضي محكمة تحقيق الكرخ، محمد سلمان، الذي أكد أن "تسجيل برامج مع متهمين في طور التحقيق، وقبل أن يتحولوا إلى محكومين، هو مخالفة صارخة، ولا يسمح القانون بتسجيل هذه البرامج –كما في حال متهم بابل- إلا وفق أمر تحريري من القضاء"، لافتًا إلى أن "القانون يعاقب المحكوم فقط، ولا ينبغي أن تسري العقوبة على ذويه، ولذا فإن برامج التشهير بحق المحكومين، مخالفة أيضًا للقانون". 

ورأت منظمة "إنهاء الإفلات من العقاب" أن "تلك البرامج تحولت إلى مناسبات للتشهير والاستعراض، لافتةً إلى أنها "تحتفظ بقائمة تحوي أسماء البرامج والفضائيات التي تمتهن هذا النوع من البرامج، والتي ستكون في مواجهة المسؤولية القانونية في حال إصرارها على ارتكاب تلك المخالفات".

وطالبت المنظمة بـ"إطلاق حملة لمطالبة القضاء بإصدار موافقة تحريرية كما ينص القانون، لتسجيل وبث "كشف دلالة" لجريمة العقيد "أحمد هادي محمد" بعد ثبوت ضلوعه بجريمة التعذيب، لإطلاع الرأي العام على الأساليب الهمجية التي اتبعها لإجبار شاب بريء على الاعتراف بارتكاب جريمة قتل".

ودعت "إنهاء الإفلات من العقاب"، إلى "إخضاع منتسبي وزارة الداخلية لاختبارات تؤكد سلامتهم العقلية والنفسية قبل تسليمهم رقاب وأجساد المواطنين العزل، إلى جانب تلقينهم دورات تثقيفية وتدريبهم على التعامل الإنساني وإفهامهم نصوص الدستور والقوانين النافذة التي لا تتيح لهم سحق المتهمين بذريعة التحقيق". 

رأى منتقدو وزارة الداخلية أنها تحرص على بث برامج كشف الدلالة لإظهار ضبّاطها بمظهر الأبطال، وتسجيل إنجازات "وهمية" على حساب معايير حقوق الإنسان وكرامة المعتقلين وعوائلهم

وأكدت المنظمة أن حادثة بابل تستدعي "عقوبات إعلامية ضد وزارة الداخلية"، تتمثل بعدم الترويج لـ"إنجازاتها المشكوك في صحتها"، داعيةً وسائل الإعلام العراقية والصحفيين والإعلاميين إلى الامتناع عن نشر النشاطات والبيانات الإعلامية لوزارة الداخلية حتى تمتثل لاحترام القانون والحقوق الدستورية للإنسان العراقي واتباع السياقات المهنية خلال أداء واجباتها في حماية القانون وتطبيق العدالة".

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

كيف ردت الداخلية حول تقارير وجود ضباط مختلّين "يتلذّذون بالتعذيب"؟

"أسرار التعذيب" في سجون العراق: قصة معتقل واجه "الموت البطيء" وشهادة ضابط!