18-أبريل-2022
الاحتجاجات

ذاكرة القبيلة والمذهب تأبّى أن تتلوث بقيم الديمقراطية (فيسبوك)

كيف تغدو الديمقراطية فضيحة؟ حين تكشف اسوأ ما فينا وتظهر مضامير الرجال وهي السلطة في المجتمعات التقليدية، التي يمكنها أن تمنح الرجال السلطة الدينية والسياسية، وإن ضعفت إحدى هاتين السلطتين تمسّك بالأخرى، أو تدعم أحداهما الأخرى للفوز بنعيم الدنيا والآخرة! وتكمن فضيحتها كذلك أنها تعرّي الانتهازيين من كل خطاباتهم المنافقة التي صدعوا بها رؤوسنا خلال فترة الاستبداد البعثي، ثم تبيّن لاحقًا أن المشكل الأكبر لا يكمن في الاستبداد وإنما في ذلك الشغف العجيب للسلطة.

لا زال سؤال الهوية والدولة وضمانات العيش المشترك والوعي بوحدة البلاد أبعد ما تكون عن مخيلة النخب السياسية الحاكمة

 فلا تنظيم، ولا هوية، ولا مؤسسات تدين للديمقراطية بأي شيء في عراق ما بعد 2003، واتضح لاحقًا أن الاستبداد لم يكن مرفوضًا من قبل "المعارضة" لكونه استبدادًا، وإنما لكونه ليس الاستبداد الذي ينسجم مع تطلعاتنا المذهبية، وهذه الأخيرة لم تكن سوى مقولة سياسية انتهازية استثمرتها الأحزاب ذات التوجه المذهبي بغية إطالة أمد وجودهم في السلطة. بكلمة أخرى: إنه ليس الاستبداد الذي كانوا يحلمون به على طريقتهم الخاصة. وعلينا أن نشعر بالامتنان للديمقراطية إذ لولاها لظلّت معادن هؤلاء الساسة مخفيّة وغامضة، لكنّ الديمقراطية كان لها رأي آخر وأظهرت دوافعهم وعرّتها تحت الشمس.

في النظم السياسية التي سبقتنا بخبرتها وتقدمت علينا بأشواط طويلة عبر تدشينها للحداثة السياسية، عادة ما تجعل الصراع على السلطة أمرًا صحيًا ضمن أطار ديمقراطي، ودولة مؤسسات، وقوانين نافذة  تحد من تغوّل السلطة. ولا حاجة لتذكيرنا بين الحين والآخر بهذه العبارة المضحكة والساذجة "إن السياسيين يسعون للسلطة"، كما لو أنها فتح علمي جديد. غاية الأحزاب في نهاية المطاف هو الوصول للسلطة، وإن لم تكن كذلك فماذا تكون ياترى؟ أليس النظم الديمقراطية تضمن التداول السلمي للسلطة؟ إذًا، لا غرابة من آلية ديمقراطية تعرّف نفسها باعتبارها جسرًا آمنًا يؤمّن الوصول للسلطة في نهاية المطاف. والحلم بجنّة السلطة ومزاياها الساحرة ليس حكرًا على ثقافة بعينها، ويمكن تعريف التاريخ السياسي لجميع البشرية بأنه صراع محموم على السلطة، إلى أن بزغت الديمقراطية لتمنح هذا الصراع صيغة شرعية عبر تقنينه وضبط إيقاعه ضمن الآليات المعمول بها في النظم السياسية الحديثة.

غير أن الصراع عندنا يجري بشكل معكوس وظل كما هو عليه وفيًّا لأشكاله البدائية: تضخيم السلطة على حساب الدولة بتواطؤ جماعي يبارك هذا التضخم ويسبح بحمده، وهو على أهبة الاستعداد لإظهار ميوله العدوانية في المنعطفات السياسية الخطيرة. إن التواطؤ الجماعي المعقود بين هذه الأحزاب الحالية وجماهيرها المتحمّسة هو الذي يطيل أمد المأساة ويقلّل من حظوظ الديمقراطية في العراق.

لا زال سؤال الهوية، والدولة، وضمانات العيش المشترك، والوعي بوحدة البلاد، أبعد ما تكون عن مخيلة النخب السياسية الحاكمة وجمهورها السعيد، ويمكن لهذه النخب وجماهيرها أن تثور وتهتاج لأسباب تافهة، لكنّها تعلن الصمت تجاه الأسئلة الكبرى والمفصلية. ومن ثمّ يحلو لها المتاجرة بهذه الأسئلة الكبرى من باب النفاق السياسي، أو حين تتعرض لهزائم سياسية تفقدها سلطتها. وستدافع بشراسة عن مكاسبها الديمقراطية في حال ضمنت أغلبية الأصوات، وبخلافه ستبحث عن أي منفذ لاختراق هذه "البدعة" الديمقراطية التي تحولت إلى صداع مزمن في رؤوس حكّام العراق الجدد، فهم يشعرون بطوق الخناق الديمقراطي، ويحنون إلى الاستبداد لولا سلطة المهيمن التي فرضت عليهم الديمقراطية فرضًا.

المهم في الأمر، أن الديمقراطية في العراق هي عبارة عن مظلة حماية كبيرة للأغلبية الطائفية، إذ جعلت هذه الأخيرة السبب الجوهري وراء إذعانهم بالديمقراطية، خصوصًا أن ذاكرة القبيلة والمذهب تأبّى أن تتلوث بقيم الديمقراطية، إلا من حيث كونها ضامنة لسلطتهم، إذ كلنا شيوخ لو تعلّق الأمر بمغانم السلطة في العراق.

ما من واحد منّا إلا وفي داخله شيخ كبير، وفي أول اختبار للسلطة تظهر نواياه للعلن بشكل فاضح. المضحك في الأمر أن مفاهيم مثل الحرية والديمقراطية أضحت علكة يومية نمضغها في المقاهي لغرض التميّز والشعور بالأهمية، وفي أول حوار ينكشف المستور ويظهر الشيخ. ويتضح جليًا أننا، وطيلة عقدين من الزمن، لا أقول ديمقراطية ناشئة، بل لا زلنا لم نبدأ ممارسة الديمقراطية بعد. ويبدو أن الأعوام العشرين الماضية لم تهيئنا كممارسين على الأقل.

 شهدنا الكثير من الموضات الحديثة على مواقع التواصل الاجتماعي لكنها سرعان ما تتبخر لأنها لا تستند على أساس متين، فابن البط عوام، ولا يصح إلا الصحيح. وبالمناسبة هنالك الكثير ممن آمن بالديمقراطية لكن ما أن تسلم منصبًا ما، ليكتشف لاحقًا أن هذه الديمقراطية الملعونة تقتضي منه ألا يبقى خالدًا في منصبه، فليس عليه سوى تعرية نفسه وفضحها عبر الاستعانة بالديمقراطية!

ذاكرة القبيلة والمذهب تأبّى أن تتلوث بقيم الديمقراطية إلا من حيث كونها ضامنة لسلطتهم

 الخبر الجميل في كل هذه المأساة أن الديمقراطية فضيحة ما من بعدها فضيحة: نشرت غسيلنا في الهواء الطلق. فإن كانت ثم  خطوة أولية للديمقراطية، على علّاتها في العراق، هو أنها فضحت المتكلمين باسمها وأثبتت أنهم قريبون من أي شيء إلا الديمقراطية. وكالعادة سيتجاهلون كل هذه الخطايا، مثل السابقين، إلى أن يخرّ عليهم السقف من فوق.