29-يناير-2022

القوم لم يعقدوا العزم على مغادرة الاستبداد (فيسبوك)

العذر الوحيد الذي ندّخره لتبرير هذه الفوضى التي تحدث في العراق، ينطلق من حقيقة مفادها: إن ما يجري بعد 2003 هو نتاج سياسة استبدادية أحرقت الأخضر واليابس، وتركت وراءها بلدًا مثقلًا بالمشاكل السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. ومعظمنا يحلل الواقع العراقي من هذه النقطة بالذات. ولا أحد يمكنه تجاهل هذه الحقيقة على الإطلاق، لأنّه ما من بلدٍ خرج من قبضة الاستبداد إلّا وكان بلدًا منهكًا ويئنّ من جراحات الماضي. لذلك تأتي عملية التحوّل الديمقراطي التي تشهد بعض التوترات والصراعات بحكم التجديد الذي يطرأ على البنية الاجتماعية والسياسية ما بعد الاستبداد.

لماذا ثمّة نزوع لا يقوى السياسي العراقي عن مغادرته وأعني به احتقار المؤسسات واختزالها بيد العائلة أو الحزب أو الطائفة؟

 وعلى الرغم من صحة هذه الحقائق التي سقناها، لكنّها، على أي حال، ليست معلومة عظيمة! فالاستبداد يترك وراءه فجائع مروعة، وتأتي التحولات الديمقراطية، كما ذكرنا، لتصويب وترميم البنية السياسية والاجتماعية المتهاكلة. ويبدأ النظام الديمقراطي حقبة سياسية جديدة خالية من الاستبداد. فالنخب الألمانية، على سبيل المثال، لم تتذرّع بالماضي النازي كسبب جوهري لما قد يحصل في المستقبل. ذلك أن النازية ولّت من غير رجعة، وما علينا إلّا أن نسأل هذا السؤال: ما العمل؟ ماذا سنقدّم للأجيال الجديدة لتتم القطيعة النهائية مع الثقافة النازية؟ كيف نحقق البديل المثالي بحيث تنسى هذه الأجيال الطغيان النازي، ولا تتحسر على تلك الأيام الخوالي، ولا تشعر بالندم من سقوط هتلر؟!

اقرأ/ي أيضًا: عبادة السلطة

لذلك ما أن تَلَمَّس الشعب الألماني البديل السياسي الناجح، والازدهار الاقتصادي الذي أرجع ألمانيا لموقعها السياسي والاقتصادي والصناعي بوصفها دولة متطوّرة، كفّ الناس عن الشوق إلى ذلك الحنين لألمانيا الهتلرية، وانحسرت الجماعات الموالية للحزب النازي بالتدريج، وبدأت ألمانيا تتعافى من جراحاتها، وظهرت كقوّة اقتصادية هائلة في أوروبا، وكسبت ثقة العالم أجمع. على غرار هذه التجارب التاريخية الفذّة، واستلهامًا من هذه الأحداث العظيمة، يحق لنا أن نسأل: هل حقًا نحن أمام "نخب سياسية" تمتلك المشروع والرؤية ولديها العزم الكامل للمضي قدمًا بعملية التحول الديمقراطي؟ هل ثمّة عاقل ينتمي إلى هذه النخب يخبرنا ما هو البرنامج السياسي والاقتصادي الذي يمكن أن يفاجئنا به هؤلاء في يوم من الأيام؟ ماذا فعلت النخب الجديدة لتدارك هذه الفجائع؟ كيف استثمرت عائدات النفط الهائلة خلال 19 سنة؟ هل كانت لديها نية حقيقية لتجاوز الماضي؟ هل ثمّة تصفية حساب تجري على هذا البلد لا نعلم أسبابها؟

ما حدث في العراق ليس استثناءً ممّا حدث لغيرنا، فكيف استثمر الآخرون خيبات الماضي، مثلما استشهدنا بالنموذج الألماني، وكيف استثمرناها نحن؟ لماذا ثمّة نزوع لا يقوى السياسي العراقي عن مغادرته، وأعني به احتقار المؤسسات واختزالها بيد العائلة أو الحزب أو الطائفة؟ ومثلما اعتدنا في عدّة مقالات بالشروع في طرح الأسئلة إيمانًا منّا أن السؤال يحرك الإمكانات ويفتحها ويطوّرها، لأننا ادمنّا مقولات باتت مكررة حد القرف، من قبيل تعليل الوضع الراهن برواسب الاستبداد كما بيّنا أعلاه.

والحقيقة ينبغي أن نذهب أبعد من ذلك، فربما ستتضح لنا إمكانات تحليلية "جديدة"، وإن كانت ليست غامضة لهذا الحد، لكن التبرير المذكور يطغي عليها لدرجة أن كل الوقائع السياسية والاجتماعية نحيلها إلى فعل الاستبداد. وهذا صحيح تمامًا كما وضّحنا. لكن حتى الحقائق تتحوّل لاحقًا بيد الفاشلين إلى تبريرات تمنح الشرعية والعذر لكل مفاسدهم السابقة واللاحقة، كشمّاعة الاستبداد مثلًا.

الحقيقة التي قد تتضح لنا أثناء التفكير هي أن القوم لم يعقدوا العزم على مغادرة الاستبداد، وهم في شوق دائم للحفاظ على هذه الذاكرة. لذلك تأتي عملية التحوّل الديمقراطي متعثرة وغامضة، خصوصًا إذا اقتربت هذه الديمقراطية من التطبيق الفعلي، فسنشهد ردود أفعال هستيرية كلها تقول بلسان الحال "ابعدوا عنّا شبح الديمقراطية"!

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ديمقراطية السقيفة

في العراق: بين السياسة و"النُكتة" شعرة واحدة