26-أبريل-2022
وادي السلام

شاهدة القبر هي شاشة عرض للأحياء وليست للأموات (Getty)

في ذروة الفوضى الأمنية والأحداث الإرهابية في بغداد اشترى والدي قطعة أرض في مقبرة وادي السلام في النجف، كي تكون مقبرة مستقبلية للعائلة!

 تلقيت الأمر في وقتها على أنه إشارة نحس وشؤم، وكأن والدي [لا يقصد ذلك طبعًا] يهيئنا نفسيًا لمغادرة هذا العالم، وأن "خبزتنا" انقطعت فيه! ولذلك لم نتفهّم كل الحجج التي كان يسوقها بأن الموضوع يتعلّق به هو، ولا شأن له بنا، حتى لو أردنا أن نُحرق على الطريقة البوذية! وأنه يريد الاطمئان على مكان دفن "لائق" له بعد موته.

حين نستدعي الموتى في أذهاننا فإننا نقصد أولئك الموتى الذين يستحقون الاستدعاء الذهني

بقينا نطارده حتى باع هذه الأرض التي لم تتجاوز مساحتها الخمسين مترًا، وارتحنا بعدها وتنفّسنا الصعداء، وكأننا حصلنا على تذكرة جديدة لمدّة رحلة إضافية في هذه الحياة!

 ولكن مسألة "الدفن اللائق" لم تحل طبعًا، وربما كان والدي حتى اللحظة يفكّر به ويعتبره شأنًا هامًا وحيويًا عنده.

 الشيء المؤكد أن والدي، مثلما حصل الأمر معنا ومع آخرين كثر، كان يتصرّف من وحي تجاربنا السابقة مع الدفن. لقد كانت تجربة قاسية مثلاً أن نشاهد طريقة دفن أحد أعمامي، بحفر مساحة عشوائية ضيّقة بين قبرين آخرين من قبور العائلة. وكيف أن قبور الجدّة والجدّ تداعت وكانت تحتاج إلى إعادة صيانة، ولكن ربما لم يتشجّع أحد لفعل ذلك، ورأوا من الأفضل التفكير بشؤون الموتى الجدد.

زرت مقابر عديدة، إسلامية ومسيحية، في دول عديدة، ولكني لم أشعر بوحشة مماثلة لتلك التي عايشتها، منذ طفولتي إلى بضع سنوات خلت، في زيارة مقابر وادي السلام في النجف. بل يمكن أن أضيف للوحشة شيئًا آخر: قسوة الأحياء على الأموات! فالمكان عشوائي بشكل كبير، والقبور غير منتظمة، والمقبرة كلها عبارة عن عمائر ترابية في أرض جرداء.

ما سوى الأقارب والمعارف والأصدقاء الموتى، والمشهورين، فإننا لا نكاد نهتم بقبور الموتى الآخرين. لو وقفت مع أخوتي وأولاد عمومتي على قبر جدنا السابع عشر، مثلًا، لما عنى الأمر لنا شيئًا، فهو ليس قائدًا أو فقيهًا أو شاعرًا كبيرًا، وإنما مجرد فلّاح من الجنوب. ربما سأقوم أنا "الأديب وصاحب المخيّلة" باعادة تأويل القبر كي يكون جزءًا من حكاية مثيرة، وما سوى ذلك فإن القدر الإنساني فرض عليه وعلى ملايين، وربما مليارات الموتى الآخرين، أن يتلاشوا، تاركين مساحة ضيّقة جدًا لأولئك الذين نسميهم: الموتى.

المقبرة

حين نستدعي الموتى في أذهاننا فإننا نقصد أولئك الموتى الذين يستحقون الاستدعاء الذهني. أو فرضت عليهم حاجاتنا الخاصة أن يكونوا قابلين للتذكّر، وأن يكون ما قاموا به في الحياة هو الأساس الذي يستند عليه حضورهم ما بعد الموت.

إن شاهدة القبر هي شاشة عرض للأحياء وليست للأموات. لا يوجد اليوم قبر للحلّاج أو أينشتاين، وقام العباسيون بنبش قبور الخلفاء الأمويين، وهناك العشرات من الشخصيات المشهورة، الشريرة والطيّبة، بلا قبور، ولكن شاهدة قبرها حاضرة في التداول شبه اليومي.

 لا يوجد قبر ليزيد بن معاوية أو شمر بن ذي الجوشن وعبد الرحمن بن ملجم، ولكن شواهد قبورهم الافتراضية تحضر مع شواهد قبور علي والحسين، فالجانبان والطرفان في آصرة عضوية، وكلاهما كسب الخلود، قاتلاً ومقتولاً، ظالمًا ومظلومًا. 

إن جدي السابع عشر هو صاحب المصير السيئ، على وفق رواية الأحياء المهتمين بالتذكّر، لا صدام حسين، الذي نبش قبره في العوجة بعد عمليات التحرير من "داعش"، لأن الأول نسي وكأنه لم يك شيئًا، أما الثاني فهو حاضر في التداول (السلبي والإيجابي) حتى لحظة الكتابة هذه!

 

إن الموت الكامل، على وفق رواية الأحياء، هو النسيان. وفي التمثيلات الشعبية يرمز له بما يجري في طريق العودة من الدفن، حيث يجبر متولي قافلة الدفّانة، وقد يكون الأخ الأكبر أو العمّ الكبير، بقية أقارب الميّت على النزول إلى مطعم خارجي لتناول الغداء، ويكون هناك تمنّع من البعض بسبب حالة الحزن، ولكن ما أن تنزل أطباق الطعام، فسيكون الأكثر شرهًا والأكثر قبولًا واستمتاعًا بالأكل هو المتهم بالنسيان السريع!

يحتاج الحيّ لقبر لائق للميّت، وصورة كبيرة في صالة البيت، واستعادات في "دورة السنة" و"ثوابات" على روح الميّت، وغيرها من الفعاليات كي يقنع نفسه، هذا الحيّ، لا ليقنع الميّت، بأن الحياة تستحق أن تُعاش، وأن خروجه المتوقّع ذات يوم من الحياة لن يكون بالغ القسوة، واختفاءً مبرمًا حاسمًا.

يتحكّم الموتى جزئيًا بوقائع الحياة التي كانوا يتصلون بها، بشكل أو بآخر، ببعض الإجراءات، ويمارسون سلطتهم حتى مع غيابهم من خلال "الوصية" الموثّقة قانونيًا، أو الشفاهية التي يسمعها شهود كثر أثناء الاحتضار، وقد تكون الوصية بوّابة لنشاط بشري مستدام، كما في وصية ألفرد نوبل في 1888 بتخصيص جزء من ميراثه لجائزة تحمل إسمه لأفضل الإنجازات البشرية، أو بوابة لصراعات وحروب كما في بعض وصايا الملوك لمن يخلفهم. وما سوى ذلك فإنه لا توجد إمكانية لأن يتصرّف الموتى "كذوات فعلية" بحياة الأحياء.

لكن الأحياء اعتادوا على "إعادة انتاج" الموتى كأمثولة وسيرة وكلمات وحِكَم ومقولات وأمثال شعبية، ولولا استمرار ميراث الأموات هذا من خلال الأحياء لانتفى شيء اسمه ثقافة وحضارة بشرية. وهو استمرار يضمن كل الفعاليات المتوقّعة، من تأبيد لمواقف الموتى أو انقلاب وانسلاخ عنهم.

من جانب آخر، فإن شعور بعض الأحياء بأن ميراث سيرتهم أو أملاكهم سيتحول إلى شيء لن يستطيعوا السيطرة عليه، وإنما يغدو جزءًا من حاجات أحياء آخرين، بما يشبه تحوّل الميت إلى مادة يعاد تشكيلها على وفق هوى ورغبات الأحياء. تجعل هذا البعض يقول مع نفسه: يا ليتني كنتُ نسيًّا منسيًا.

إن كان الخلود الافتراضي من خلال شواهد القبور أو القيام بأعمال تحظى بتأييد الأحياء، هو هاجس بشري متأصل، فإن النسيان أيضًا هو هدف بشري وجيه ومحترم، وإن حضر في التاريخ بشكل هامشي، تترجمه سير بعض الشخصيات المشهورة التي تنسحب من الحياة العامة وتركن إلى العزلة، أو يقوم كاتب ما بحرق أعماله، كأبو حيان التوحيدي وسفيان الثوري وأبو عمرو بن العلاء.

وقد يكون طالب النسيان شريرًا يشعر بالندم، ويريد محو سيرته في اللحظة التي سيغادر بها الحياة، متغافلًا عن أن هذه السيرة كتبت بحبرٍ غير قابل للمحو، ما لم يقرر البشر بمجموعهم محوها لضرورات تخصّهم.

هذا النسيان كان الأكثر حضورًا وأنا أطالع شاهدة قبر في مقبرة غريبة. رجلٌ ما ميّت منذ قرنين، ربما لم يتبّق من ذرّيته وأحفاده من يتذكّره أصلًا، أو ربما لم ينجب وانقطع نسله. أتخيّله وقد اتفق مع دفّان معروف لقاء مبلغ كبير، على القيام بهذا الدفن اللائق الأكثر صمودًا أمام عوامل التعرية الطبيعية. يتأمل تابوته المزخرف وشاهدة قبره الأنيقة، ويتخيّل نفسه فرعونًا ما. ليعيش مع نفسه فحسب، لحظات الامتداد ما بعد الحياة قبل أن يغادر هذه الحياة فعليًا. وكأنه يتلقى أجور تذكار الموت سلفًا، ما دام لا أحد غيره سيتلقى هذه الأجور بعد حياته.

إن كان الخلود الافتراضي من خلال شواهد القبور أو القيام بأعمال تحظى بتأييد الأحياء هو هاجس بشري متأصل فإن النسيان أيضًا هو هدف بشري وجيه ومحترم

غير إنني رأيت قبره تذكارًا للنسيان، الأكثر اتساعًا وشمولًا من أي تذكّر. إنه قبرٌ غامض مجهول، لا يحيل إلى صاحبه ولا يعرّف به، وإنما يذكر، للحظة، بالمجهولين الذين قدرهم أن لا نتذكرهم.