01-ديسمبر-2021

(صالح الهجر)

يبقى عمل الشاعر وكتاباته لا تخلو من المخاطر والمجازفات، ولا يقدم على توظيف صور مغايرة في النص الشعري إلا من يمتلك جرأة مستفزة بشكل مستمر، فجرأته تكمن في توظيف الطاقة الإيجابية والتعبيرية للشعر، كما تكمن في قوة فهمة لحركة الصراع ومستوياته داخل العمل الدرامي المسرحي. العديد من الشعراء لهم تجارب مهمة في النصوص الشعرية  التي تنزاح إلى فضاء المسرح، وذلك لمحاولة تجسيد رؤية العرض المستحيلة في ذهنية الشاعر "الكاتب"، رغم أن هذا لا يسمى المسرح الشعري، لكنها تعد تجربة مغايرة لما تحمله من تنوع واختلاف عند مولودة النص الشعري عبر المصطلح المسرحي لخلق محاكاة لها خصوصية عند المتلقي "القارئ".

العديد من الشعراء لهم تجارب مهمة في النصوص الشعرية التي تنزاح إلى فضاء المسرح

هذا ما جسده الشاعر "عمار عبد الخالق" في مجموعته (وليمة الأقدام) ليؤكد أهمية ما كتبه منطلقًا من قصيدة (سيرة ذاتية للجهاز الهضمي) والتي وظف من خلالها الدراما الشعرية بشكل تدريجي عبر الصوت الشعري الذاتي داخل إطار القصيدة الواحدة، وبالتالي نجح في الوصول إلى الصوت الموضوعي ليحقق عمل درامي موضوعي متكامل.

حين أذهبُ بعيدًا عن الغرفةِ

سيبقى الذباب..

يستيقظُ صوتي في كلِّ وجبة طعام

ينقل الشاعر من خلال نصه الدرامي أحاسيسه بأهمية الفعل الدرامي وذلك عبر لسان الشخصيات. لكل أسلوب وضع يستخدم لنقل الآراء على لسان الصوت الذي يجسد رؤية المرور التدريجي للشاعر أو العبور من مرحلة كتابة القصيدة إلى مرحلة التوظيف في المسرحية الشعرية يتطلب ضرورة التوقف في المنطقة الوسطى - أي تحديد هذا النمط الشعري بالعناصر الدرامية - ليس أكثر من مجرد توهم لا تؤيده شواهد كثيرة لقراءة مسرحية تثبت نجاح الشاعر في كتابة مسرح شعري ناضج ومكتمل، كالذي أبدعه الإغريق ومن بعدهم وليم شكسبير وموليير، على الرغم من تجسيد الدراما في قصائدهم الغنائية أو الذاتية الرائعة.

اقرأ/ي أيضًا: والله إن هذه الحكاية لحكايتي لكيليطو.. كسر الإيهام من أجل الاستغراق في الوهم

هذا ما دفعني لأن أتوقف عند ما جسده الشاعر في النص، والذي يدفع إلى تأمل تلك التجربة المتفردة بلغتها وتوظيفها إبداع هذا النسق النصي.

كثيرونَ يرمون المنقارَ بوجهِ عقارب الساعة

أطهرُ وقاية من الجوع

أنْ يكونَ المطبخُ مسرحًا..

فيتاميناتُ الكومبارس تساعدُ شخير المعدة

وَمنشطاتُ الصغار

علبةُ سينوغرافيا للحياة

تكشف هذه التجربة التميز في اللغة وتركيبها، متخطيًا بذلك صورة الوسيط وقيمته الشعرية التي لا تنكر علاوة على بقية النصوص المسرحية الشعرية التي لم تكن القصيدة الدرامية مدخلًا ممهدًا لها. وأرى أن هذه التجربة تختلف في علاقة المسرح الشعري بالقصائد الذاتية اختلافًا يثبت ويؤكد ما ذهبنا إليه من اختلاف الموهبة الفكرية عن بعض التماثل والاختلاف في موهبة كاتب السرد الذي يمتلك القدرة الفائقة على كتابة المنجز في المسرح، لأن لكل موهبة طريقها المختلف مثلما لها منبعها واتجاهها الإبداعي أيضًا.

وما جسده الشاعر هنا هو ليس تزويقًا أو ترفًا لفظيًا تحلى به المصطلح الدرامي، بل أن النموذج الشعري الذي قدمه هو عمل خيالي جسد رؤيته من خلاله باعتباره أنموذجًا سرديًا - فنيًا متكاملًا. والهدف من ذلك التوظيف أن تمتع الأذن بـ"الشعر" إلى جانب التأويل عبر المصطلح المسرحي، على أن يتم بشكل مدرك كمجرد لغة تُستعمل أداة للتعبير. ولا يجب أن يشعر المتلقي شعورًا مكتملًا بأنه غير ذلك، كما لا بد من إدراك أن المسافة بين لغة المسرح النثرية وبين لغة الكلام العادية بعيدة بقدر ابتعاد الشعر عنها، ولنا في شاعرية لغة أعمال أنطوان تشيخوف وأوجست سترندبرج وبعض أعمال هنري إبسن النثرية مثال على ذلك. إلا أنه في كل الأحوال وسواء كتبت المسرحية شعرًا أم نثرًا فلا يجب أن يقوم الفصل في ذهنية المتلقي بين الدراما ولغتها، بل ينبغي أن يترك الأسلوب ووقع الكلام أثرًا غير شعوري.

طلاءُ الصحون فارغ، لا إضاءةَ بعد اليوم

إزالةُ الدهون من ملعقة الصباح..

تحتاجُ لممثلٍ جيد!

كلُّ الممثلينَ ميتون في ثلاجة النص

تمثل تجربة الشاعر (عمار عبد الخالق) في نص "سيرةٌ ذاتيةٌ للجهاز الهضمي" شكل جديد ومتنوع عن بقية التجارب الأخرى، وذلك لارتباطه الصادق الواعي بموضوعته المستمدة من الواقع البيئي والمستلهم من التمثل الفني للدراما الشعرية التي لا تنحصر عن استمتاع الأذن بالشعر، فضلًا عن التميز الجمالي للخطاب الفكري والنفسي.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قبل أن يقعَ الكلامُ على العالم

الاستخدام الأيديولوجي والميديوي للعتبات النصية

دلالات: