31 عامًا، ذكرى جديدة لوقف إطلاق النار بعد أطول حرب في العصر الحديث وأحد أفدحها خسائرًا بنحو مليون قتيل وألف مليار دولار، حرب الخليج الأولى أو الحرب العراقية الإيرانية، أطلقت عليها الحكومة العراقية آنذاك اسم "قادسية صدام" بينما عُرفت في إيران بـ "الدفاع المقدس"، والتي لا تزال تبوح بـ "أسرار جديدة".
يتجدد الجدل كل عام في ذكرى وقف إطلاق النار بعد ثمان سنوات من الحرب بين العراق وإيران حول أسبابها ونتائجها والمنتصر فيها
ومع كل عام يتجدد الجدل حول الحرب بأسبابها ونتائجها، في البلاد، خاصةً مع النشاط الهائل لصفحات التواصل الاجتماعي، بين من يرى فيها حربًا كانت لابد أن تقع، ومن يعدها انتصارًا في محاولة لـ "دفاع عن نظام صدام حسين"، أو هزيمة لصالح روح الله الخميني على لسان "المقربين من طهران"، في حين يستغلها آخرون للتذكير بقصص مآساوية من صفحات تلك الحرب المروعة، وما جرته على العراق من آزمات لاحقة أدت إلى "سيطرة ونفوذ" إيران عبر الحرس الثوري وتحديدًا قاسم سليماني أحد قادة تلك الحرب.
تواريخ غيرت شكل الشرق الأوسط!
وكتب عماد حسن، مدون على مواقع التواصل الاجتماعي، : "في يوم 16 كانون الثاني/يناير عام 1979، أزيح شاه إيران وغادر مع عائلته إلى المنفى للأبد، ترك الشاه مهامه إلى مجلس الوصاية (المجلس الملكي) ورئيس الوزراء للمعارضة".
اقرأ/ي أيضًا: صور| فُقد منذ 37 عامًا.. السيول تكشف مصير جندي عراقي شارك في حرب إيران
في شباط/فبراير 1979 غادر الخميني باريس، ووصل في ذات اليوم إلى طهران على متن طائرة "آير فرانس" بعد 15 عامًا من النفي، وبعد عشرة أيام (ما يسمّي في إيران بعشرة الفجر) وتحديدًا في 11 شباط/فبراير 1979 انهار الحكم الملكي، قامت الثورة الإيرانية في البداية على أكتاف حلف عريض من قوى إسلامية ووطنية ويسارية، لكن فريق آية الله الخميني سرعان ما تغلب على بقية مكونات الثورة، ولم يُخْف الخميني طموحه إلى تصدير الثورة الذي أعلِن كمبدأ من مباديء الثورة الإسلامية الإيرانية.
على الجانب الآخر من الحدود وبعد خمسة أشهر فقط من الإطاحة بحكم الشاه، تحديدًا في 16 تموز/يوليو 1979 أزيح أحمد حسن البكر من الحكم وأصبح صدام حسين وبشكل رسمي الرئيس الجديد للعراق. في تقرير داخلي أعدته المخابرات الأمريكية "سي آي إيه" بتاريخ آذار/مارس 1980 - وتم نشره ورفع السرية عنه في 2006 - ذكرت المخابرات الأمريكية أن "إيران تعتبر العراق الهدف الثاني كعدو لها بعد الولايات المتحدة، وأن محاولات تصدير الثورة الإيرانية قد تعقدت بسبب الارتباك الذي ساد الحياة السياسية الإيرانية بعد سقوط الشاه، لكنه إذا ماتم حل المشاكل الداخلية الإيرانية في السنة المقبلة، فإن إيران ستخطو باتجاه زعزعة استقرار جيرانها ودعم التمرد في العراق وأفغانستان، كما أن الدعم الإيراني للمقاومة الأفغانية قد يمنح السوفيت حجة للتدخل في إيران، إن تصدير الثورة الإيرانية سيشكل خطرًا على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها".
نصر أم قرارات خاطئة؟
ويذكر حارث حسن، دكتوراه في العلوم السياسية، على صفحته الشخصية في فيسبوك، في رد على السياسي ظافر العاني، أن "النصر في الحرب يعني أنك تخرج منها وقد حققت على الأقل الحد الأدنى من أهدافك التي دخلت الحرب من أجلها".
يضيف، : "اجتمع صدام حسين مع أعضاء القيادة القومية، وهو يبلغهم بقرار اجتياح بعض الأراضي الإيرانية من أجل استعادة المناطق التي اعتقد النظام حينها بأنها يجب أن تكون جزءًا من العراق، وإلغاء اتفاقية الجزائر التي عبّر صدام حسين عن مرارة لأنه اضطر لتوقيعها عام 1975. كان صدام حسين يتحدث عن عملية عسكرية خاطفة، تستثمر الضعف الإيراني بعد الإطاحة بالشاه، من أجل فرض أمر واقع ودفع الإيرانيين لاحقًا إلى قبوله - ولو عبر المفاوضات. استمع صدام حسين لآراء رفاقه ومخاوفهم. قالوا له إنها قد تتحول إلى حرب طويلة، إن الاتحاد السوفيتي لن يصطف معنا في الحرب، إن الولايات المتحدة قد تسعى لاستثمارها كي تستنزف الطرفين، إن الظرف الدولي الراهن قد لايستمر طويلًا (أزمة الرهائن، مثلاً)، قرأ صدام حسين الأوضاع والتوازنات قراءة خاطئة".
رد مختصون هذا العام على آراء سياسيين وصحفيين يرون في نهاية الحرب "انتصارًا للعراق" داعين إلى إعادة تفحص تلك المرحلة وفهم دروسها وانعكاسها على أوضاع البلاد الآن
كما أشار، إلى الرسالة المعروفة التي بعث بها صدام حسين إلى رفسنجاني في آب/أغسطس 1990، أي بعد احتلال الكويت، وفيها يعلن العراق قبوله بالعودة إلى الحدود التي كانت قائمة قبل 1980، وبذلك - يقول مخاطباً رفسنجاني - "تحقق كل ما أردتموه"، لافتًا إلى عبارة أخرى على لسان صدام حسين في رسالة إلى طهران تقول "وكأن شيئًا لم يكن".
مانحتاجه لفهم تلك المرحلة ليس ترويج الانطباعات وركوب عواطف الجمهور، كما يرى حسن، "فهذا أمر سهل ويسير ويفعله كل الشعبويين اليوم، بل إعادة تفحص تلك المرحلة وفهم دروسها"، مبينًا أن "ليزا بلايديز، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ستانفورد، قضت عامين تدرس وثائق البعث، وألفت كتابًا عن نظام صدام كانت أطروحته الأساسية هي أن القرار الخاطئ الأول، أي قرار الحرب، مهّد لسلسلة من القرارات الخاطئة الأخرى، لينتهي الأمر إلى ما انتهى اليه".
ويتابع، : "بحلول عام 1982 كان الوضع الاقتصادي للعراق منهكًا جدًا بسبب تراجع أسعار النفط وتكاليف الحرب، الحرب التي تصور صدام حسين أنها ستكون عملية خاطفة، وبعد نهاية الحرب كان لدى العراق جيش كبير وديون كبيرة ووضع اقتصادي صعب. هل تسرح الحكومة كل جيوشها وهي غير قادرة على توفير فرص العمل لهم؟ كيف يمكن أن تنتقل من جو المعركة التي أجلت كل ماعداها إلى جو السلام واستحقاقاته بميزانية فارغة؟ كان الوضع الدولي يتغير والاتحاد السوفيتي يلفظ أنفاسه الأخيرة، قرر صدام حسين أن يهرب إلى الأمام، فاحتل الكويت. قرار خاطئ آخر دفع البلد ثمنه هزيمة عسكرية نكراء (أيضا اعتبرها النظام نصرًا)، عزلة دولية لامثيل لها في بلد يعتاش على تصدير النفط، وحصار اقتصادي قاسٍ تسبب بمزيد من الإنهاك لجهاز الدولة وبكوارث اجتماعية واقتصادية يعرفها الجميع، وبالطبع، أدّى إلى إنشاء لجان للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل، التي سيصبح الخلاف معها مبررًا لاحتلال القوات الأمريكية للعراق عام 2003".
اقرأ/ي أيضًا: ما تفاصيل مشروع إيران "الحديدي" ولماذا تتكتَّم حكومة عبد المهدي؟
ثم يتساءل المختص بالعلوم السياسية، : "هل كان قرار الحرب على إيران لا مفر منه فعلًا؟ وهل انتصر العراق فيها حقًا؟ لا اعتقد أن الجنرال قاسم سليماني، الذي كان مقاتلًا في تلك الحرب، يشارك د. ظافر (العاني) هذه الرؤية وهو يتذكر تلك الحرب كمحطة أولى في صراع انتهى إلى ما انتهت إليه الأمور اليوم، حيث يقرر هذا الجنرال مصير الحكومة العراقية".
أسرار جديدة!
بدوره، عكف سرمد الطائي، كاتب وصحفي، منذ أيام على ترجمة مقتطفات من وثائق إيرانية "نادرة" تشير إلى الظروف التي خضع بسببها آية الله الخميني لاتفاق وقف إطلاق النار، بمناسبة الذكرى 31 لوقف الحرب العراقية – الإيرانية.
تشير المقاطع التي ترجمها الطائي، إلى شروط "تعجزية" حددها الحرس الثوري الإيراني للمرشد الأعلى حينها (الخميني)، لإطالة أمد الحرب 5 سنوات أخرى وتحقيق هدفها "احتلال بغداد"، حيث كانوا يريدون ألف دبابة ومئتي طائرة نفاثة، مع السيطرة على موازنة إيران بالكامل، وهو ما دفع الخميني إلى وضع علامة استفهام كبيرة، ثم لاحقًا الرضوخ لوقف إطلاق النار.
نُشرت وثاق إيرانية تترجم أول مرة إلى اللغة العربية تكشف أسرارًا جديدة عن أسباب موافقة الخميني على وقف إطلاق النار والصراع بين الحرس الثوري ورفسنجاني حينها
كما أشار، إلى تصريح وزير الحرس، آنذاك، رفيق دوست الذي يقول: لو كان بإمكاننا احتلال بغداد فلتستمر الحرب لكن هذا مستحيل، لأننا عجزنا عن الاحتفاظ بجزيرة الفاو الصغيرة. فيما أصدر هاشمي رفسنجاني والذي كان قائدًا أعلى للقوات الإيرانية مع نهاية الحرب، توضيحًا مهمًا، وفق الطائي، حول صراعه مع حرس الثورة، وأن الشعب بدأ يفقد الثقة بالحرب وتوقف تطوع الشباب للجبهات، ويجب أن تنتهي لأن العراق متفوق جدًا، فضلًا عن مواقف أخرى تثبت وجود "صراع" بين الحرس الثوري والحكومة دعا الخميني فورًا إلى اتخاذ قرار الموافقة على وقف إطلاق النار.
ومن بين الوثائق التي نشرها الطائي، بعض المنشورات التي ألقتها الطائرات العراقية على جنود إيران في آخر سنة من الحرب، والتي نشرتها وسائل إعلام إيرانية من الأرشيف، مفادها "إن إخوانكم في الجيش العراقي المسلم يدعوكم للاستسلام والحلول ضيوفًا لدينا لأن الحرب يجب أن تنتهي وهي تدمر كلا شعبينا".
يقول الطائي، إن الهدف من نشر تلك الوثائق "الاقتراب من فهم العقل السياسي الإيراني لحظة وقف الحرب ومحاولة فهم صعود وهبوط التيارات الإيرانية وفهم إلى أين هم ذاهبون، ولماذا انتصر رفسنجاني على الحرس ذلك اليوم ثم لماذا تفوق الحرس على جناح رفسنجاني حاليًا"، عادًا أن "هناك الكثير مما يستحق أن نقوم بمرور خاطف عليه كي نطور طريقة تفكيرنا بشأن العقل الإيراني ونوعية الجدل السياسي داخل طهران وأن لا نبقى نشتم أو نؤيد فقط".
ويضيف، : "لدى الإيرانيين جهود كبيرة لفهم الشرق الأوسط خصوصًا العراق بينما العرب لا يبذلون الجهد الكافي لذلك. إيران تتعلم العربية وتفهمنا بالعربي أما نحن فلا نعرف الفارسية ونحاول فهم إيران عبر الإنجليزية والترجمات الوسيطة"، فيما يرى أن "المنتصر الوحيد يوم وقف إطلاق النار هو نحن المساكين في إيران والعراق الذين دمرتنا حرب ثمانية أعوام".
قصة من الحرب والحصار!
من زاوية أخرى، اختارت نوره القيسي، كاتبة وصحفية عراقية، الحديث في ذكرى انتهاء الحرب عبر سرد قصة لها مع امرأة من جيرانها اختارات أن تطلق عليها "س" حافظًا على خصوصيتها، حيث بينت أن تلك المرأة كانت شابة أنيقة نهاية الثمانينيات، لكنها كانت ترفض المتقديمن للزواج منها، قبل أن تذوي تحت وطأة الحصار خلال التسعينيات، في وقت كانت لا تزال "صامدة وعنيدة وثابتة ومكابرة".
لكن شتاء عام 2000 كان شاهدًا على "انكسارها" كما تروي، القيسي، حيث سمع الجيران صرختها المدوية ثم سقوطها على جسد لم يتبقى فيه الكثير مسجى في "تابوت مستعمل"، كان لابن خالتها وزوجها الذي "لم تمهله الحرب ضد إيران حتى فرصة لتقبيل عروسه بعد عقد قرانهما رسميًا، ثم آسر ومات قبل عملية تبادل الأسرى بعد عشرين عامًا من الارتباط بحبيبته أمام محكمة الأعظمية".
حرص صحفيون وكتاب على رواية "قصص مآساوية" من فصول الحرب و"تجسيد" مسؤولية صدام - الخميني عن "إهدار" أرواح ودماء نحو مليون شخص وما جرته على المجتمع من "كوارث"
ترى القيسي، أن حرب الثمان "كانت حرب رعناء بين أرعنين مؤدلجين ندفع ثمنها جيل بعد جيل، وتبجح بالنصر، لم يكن نصرًا". بينما خط أحمد فلاح، رسام كاريكتر، رسمة تمثل جسد "طاغية" بنصفين أحدهما لصدام حسين والآخر لآية الله الخميني، يجلس على كرسي من جماجم الجنود، في إشارة إلى تقاسمهما المسؤولية عن سقوط مئات آلاف الضحايا من الطرفين.
اقرأ/ي أيضًا: