31-أغسطس-2021

الديمقراطية والمواطنة تهدد أمن المجتمع التقليدي وتصيبه بمقتل (فيسبوك)

إن الوطن لا يحتمل ولا يطيق منافسة الطائفة له على السيادة، إذ في هذا ضياعه المحقق، أما الطائفة فهي حين تحل محل الوطن وتحتويه، فإنها تضفي صفاتها وخصائصها وولاءاتها عليه. إنها تنفيه إلى العدم لتشيد عدمها الخاص مكانه في هيئة حروب تدميرية عقيمة وإعادة إنتاج حروب أخرى من ذات الطبيعة. من مقالة مشتركة لهادي العلوي وعلاء اللامي.

لا زال مفهوم الوطن والمواطنة مفهومين تجريديين مقارنة بمفهوم الطائفة، إذ تحوّلت الطائفية إلى نص ثابت، وكل الوقائع الخارجية هي، بمفهوم الطائفيين، ينبغي تفسيرها وإرجاعها إلى مفهوم الطائفة. ولذلك لا نستغرب حول مدى التشابه الغريب في كل حقبة تاريخية بين الطائفيين؛ تذليل كل الوقائع ومطابقتها وفقًا للخطاب الطائفي الذي تحوّل إلى نص مقدّس في بلادنا. ومن يخرج من هذا الإجماع فهو إما مغرّر به أو فاسد ومنحرف، لأنه خرج عن النص المقدّس، ذلك النص الذي يلقّن أتباعه على الدوام بأن الوقائع تغدو كلّها مزيّفة لو تضاربت مع مفهوم الطائفية. ينبغي أن تكون المادة التفسيرية لكل الوقائع السياسية والاقتصادية والعسكرية انعكاسًا لما يدور في ذهن الطائفيين، وما عدا ذلك، فكل تأويل هو مزيف على أي حال. وبهذا المنطق ينبغي أن يكون الفرد الصالح هو الفرد الذي يأكل ويشرب من مطبخ الطائفيين، فخارج هذا المطبخ تجري عليه أحكام الريبة والاستعداء ما أن يثبت العكس.

حتى لو حازت الطائفة على القوة السياسية و العسكرية والاقتصادية والثقافية ستبقى مسكونة بخطر الآخر الذي يشكّل أقلية سياسية

  منطق الطائفيين واحد في كل زمان ومكان: يصدّرون بضاعتهم السياسية باسم الطائفة، كما لو أن أفراد الطائفة يتعرّضون لخطر وشيك ولم يبقَ غير الطائفيين لإنقاذهم. والحصاد الذي يمكن للطائفة أن تجنيه هو ثقافة العَسكَرة والقتال في سبيل الطائفة من جهة الأتباع، أما المال والثروة والحياة المُرَفَهَة فيعود للنخبة الطائفية. كل هذا يجري أمام أعين الأتباع، لكنّهم، وبطيب خاطر، زهدوا بحرياتهم ورفاههم الشخصي من أجل رفاهية النخبة. اللهم إلّا في مواسم الانتخابات البهيجة؛ فثمّة كرم لا محدود في توزيع الهبات والمكرمات على "الناخبين" حتى لو كانت حبرًا على ورق، المهم في الأمر أن تبقى الناس تتعلّل في الأماني الجميلة.

اقرأ/ي أيضًا: الدولة والجماعة في العراق: من يتحكم بنا؟

وإذا أردنا أن نجاري منطق الطائفيين، فمن النادر أن نسمع دفاعًا عن رفاهية اقتصادية للطائفة بقدر ما نسمع في الغالب أن تبقى الطائفة متأهبة لهذا الخطر الوشيك الذي يتهددها من الآخر. حتى لو وضعت الحرب الطائفية أوزارها فثمّة امتداد للخطاب الطائفي؛ لا بد أن يبقى ليضمن بقاء هؤلاء التجار ولضمان حياتهم السعيدة على حساب الأغلبية الفقيرة والمغلوب على أمرها. والغريب أن هذه الظاهرة ليست جديدة، بل لها امتدادات تاريخية، لكنّها تعيد إنتاج نفسها في المجتمعات التقليدية على وجه الخصوص. فحينما تغيب الدولة، لا توجد سلوة عزاء أجمل من أن يتضامن الطائفيون فيما بينهم. إلا أنه تضامن منقوص يكتفي بصلب الناس على مذبح الطائفية وتكريس الكراهية ضد الآخر. أما سؤال الحرية والرفاه يبقى مستبعدًا، فبحضوره تغيب الطائفية بلا رجعة، ويضرب مشروعية الطائفيين في القلب.

إن الأنصار أو الأتباع أو الرعايا (ما شئت فعبّر) فهم مجّرد سلعة رخيصة يتم تداولها في هذه السوق الرائجة والتي تجد لها الكثير من المتحمسين على مر الأزمان. هل ثمّة جديد في هذا؟ كلا. لأنه لولا الحشد الغفير من هؤلاء المستعدين للذود عن جماعتهم حتى آخر نفس وبدون مقابل لما استطاع تجّار الطائفية، مثلًا، أن يحققوا كل هذ الولاء. الطريف في هذا المنطق، أنه حتى لو أعلنت الطائفة هيمنتها على كل مفاصل الدولة وقادتها الصدفة التاريخية أن تتقلّد مناصب عليا في الأجهزة السياسية، والإدارية، والأمنية، والخدمية، فسيبقى ذلك الحنين الذي يدعمه الهاجس المريب ضد الآخر. بتعبير آخر، حتى لو حازت الطائفة على القوى الأربع: القوة السياسية، والقوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والقوة الثقافية، ستبقى مسكونة بخطر الآخر الذي يشكّل أقلية سياسية. سواء حاز الطائفيون على القوة الخشنة أم الناعمة يبقى الخطاب كما هو، وهذا ما نشاهده في العراق.

 من الطبيعي أن تستبسل الجماعة في الدفاع عن هويتها تجاه الأخطار الوجودية التي تهدد تاريخها، وتترسخ هذه الحقيقة وتتبدّى بجلاء في المجتمعات التقليدية كما ذكرنا قبل قليل. فهذه الأخيرة تقولب كل القيم الحديثة في قالبها الخاص، فتخرج هذه القوالب على شكل صور مشوّهة؛ يقبلون بالديمقراطية شريطة أن يبقى وجود الجماعة بارزًا، وألا يتحوّل الناخب إلى مواطن عقلاني! بل عليه أن ينتخب من أجل الولاء. يقبلون بالمؤسسات شريطة أن يبقى المنطق الحاكم على هذه المؤسسات هو المنطق الرعوي لا المنطق المواطني. حتى لو توفرّت لهذه الطائفة، كما قلنا، كل أسباب الهيمنة، فلا يمكنها أن تتخلّى عن ذاكرتها الحميمة، هي بهذا تخسر كل أسباب الهيمنة بمرور الأيام.

تتحول الدولة من دولة مواطنين إلى دولة رعايا. أي تكون السياسة، بحسب فتحي المسكيني، فن إدارة القطيع؛ لدي قطعان لأقودها وليس مواطنين يتحركون ضمن إطار دستوري ومساحة من الحرية، والشاطر من يقود القطيع بشكل ممتاز. مفاهيم مثل: مواطنة، حرية، ديمقراطية، تهدد أمن المجتمع التقليدي وتصيبه بمقتل، وتقطع أرزاق الزعامات القبلية والمذهبية. بيد أن أفراد المجتمع التقليدي يمكنهم أن يتظلّموا ويوجهوا سهام نقدهم على أي خطاب نقدي يقصدهم ويربطونه فورًا بكرامتهم الشخصية، بل سينددون بقمع الحريات وتكميم الأفواه وتغدو الحرية قبلة مقدسة بالنسبة لهم لو تعرض بنيانهم العقائدي للنقد، في حين تبقى هذه الحرية "البعبع" في عداد المحرم ورديفة للتحلل والفجور والإباحية لو تكلم بها الآخرون.

لا غرابة في الحراك المحموم للسياسيين وهم يرتمون في أحضان مذهبهم أو قبيلتهم في الكرنفالات الانتخابية

لمجرد أن نتابع الوضع السياسي في العراق سنصاب بالإحباط: يسارع الناخبون لانتخاب ممثليهم على أساس الولاء الطائفي؛ إذ يكفي أن يكون ممثليهم في البرلمان من أعوان الطائفة (سواء كانوا من المذهب أو القبلية)، ولذلك نرى الحراك المحموم للسياسيين وهم يرتمون في أحضان مذهبهم أو قبيلتهم في الكرنفالات الانتخابية المحمومة. يكفي أن يقوم السياسي بفعاليات مسرحية سريعة لكسب ود الطائفة؛ من قبيل إكساء شارع رئيسي، أو إعلان عن توزيع قطع أراضٍ "للمواطنين"، أو بعض المنح المالية على شكل قروض، فحينئذِ تطمئنّ قلوب الطائفة من أن كل شيء على ما يرام! إذ يكفي أن يضيع الوطن كقربان لأشواق الطائفة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ثقافة القبيلة وظاهرة الغلو في العراق

أحزاب "عملية" وجماهير عقائدية