لاشك بأننا نميل بطبعنا إلى تصنيف الناس ووضعهم في "خانات" وهذا يريحنا منهم إلى حد كبير! عبد الغفار مكاوي - نداء الحقيقة.
كلنا متفقون ضمنيًا على الأسئلة الكبرى؛ كالحرية، والعدالة، وحقوق الإنسان وغيرها. لكن في الحقيقة ينتهي أمرنا إلى شقاق. لماذا؟ لأننا نقدس أوثانًا ضخمة لا نعلن عنها في العادة. هذه الأوثان تختلف عن الأوثان التاريخية المألوفة. إنها مقدسة لدرجة عدم البوح بها وتتحول إلى طقوس سرانية.
هناك الكثير ممن يطيب لهم ممارسة لعبة الاختلاف على الطريقة السلفية
في كل مرة نثبت أن مواقفنا الشخصية وعدوانياتنا (أو غبائنا العداوني) هي أقدس من القضايا الكبرى. أزعم أن الخطوة الأولى لفض هذا الاشتباك المزمن هو الاعتراف بحدود جهلنا وعدم المبالغة في تضخيم الذات، أن نكتشف عمق هذه الثنائية التي تتحكم بمصائر الكثير، أعني بها ثنائية الطاغية والعبد. نحن عبيد لمواقفنا العدائية. حتى الاختلاف يتخذ صيغًا عدوانية غبية وعنيفة، تتحكم بنا الضغائن والأحقاد وردود الأفعال الصبيانية.
ومما عزز هذه الفوضى هو المساحات الهائلة التي وفرتها مواقع التواصل الاجتماعي التي شوهت مفهوم الاختلاف، أو بتعبير أكثر دقة وموضوعية، أفسحت المجال لكثير من الضغائن أن تظهر على شكل اختلاف!
على سبيل المثال: "المختلفون" في الواقع الافتراضي لا يتفاعلون معك، حتى لو كانوا يتفقون مع بعض ما تكتب (أو يراقبونك من وراء حجاب). لأنهم وضعوك في خانة الشياطين. المختلفون يمارسون لعبتهم الأثيرة التالية: يحاولون أن يتقنّعوا بغيرتهم وحسدهم وعدائيتهم ويحولونها على شكل اختلاف! إنهم يوهموك حقًا أنهم مختلفون. الاختلاف ثروة معرفية هائلة تستنطق ما غاب عنّا وما عجزنا عن التفكير فيه. الاختلاف يقف بالضد من التكرار ويمنحنا فهمًا جديدًا لكينونتنا. لكن المختلفين معك يصرون أن يمارسوا لعبة الاختلاف بذهنية السلفي الأبله. ولكي يبرروا تلك الضغائن ما عليهم سوى تصنيفك خارج دائرة "الاختلاف"!
لماذا استشهد بهذه العينات "الافتراضية"؟ هؤلاء أنفسهم ممن كثّروا السواد وأشعلوا فتيل العداوات الشخصية وأضاعوا الفرصة المثالية لبروز تنظيم سياسي يمثل القوى المنتفضة. فعلى الأقل كان يمكن لنا أن نثبت لأنفسنا أن دماء من سقطوا في ساحة التحرير لم تذهب هدرًا، لكن لـ"المختلفين" رأي آخر.
المشكل الأكبر هنا وبالذات: إن هذه العينات هي نفسها من كانت تزاول نشاطها السياسي في ساحة التحرير، وهي نفسها من كانت تعاني نزوعًا شديدًا تجاه السلطة. ليس نزوعًا سلطويًا مثلما هو معتاد في عالم السياسة، بل كانوا محاطين بسلطة من نوع آخر: سلطة الأهواء العنيفة (وربما تحول البعض منهم إلى "ناشط مدني"). وحين تكبّد الحراك خسائر فادحة وسقط الشهداء واحدًا تلو الآخر، رجعوا إلى مكانهم الأثير "فيسبوك" يمارسون "الاختلاف" وينددون بالسلطة السياسية ويطالبون بالعدالة والحرية وحق الاختلاف!
في مثل هذه الفوضى يصعب عليك التنبؤ بنتائج الأحداث؛ حيث لا السلطة السياسية ومؤسساتها الخَرِبة، ولا المجتمع المختلف مع نفسه، ولا هذا الجيل الجديد،الذي نعتذر له دائمًا بقلّة الخبرة، لكنه لا لا يعزز من هذه الخبرة، ولا يريد أن يستفيد من أخطائه، فالجميع مختلف ضد الجميع، والجميع لا يعرف لماذا هو أصلًا مختلف. يتفقون على الأسئلة الكبرى، التي ذكرناها، لكن لم تستطع هذه الأسئلة أن تجمعهم في كيان مُنَظَّم.
نحن إزاء ديانة مقدسة لا تعرّف عن نفسها عادة، وإزاء أوثان ضخمة، ليست من طين ولا من تمر، بل من هذه الأنا المتضخمة الجاهلة التي تترجم نفسها على شكل نزوعات نفسية حادة وترى من نفسها سلطة مرجعية عليا. ولأننا نعتقد بأهميتنا وتميّزنا عن الآخرين، ربما لكتاب طالعناه أو لديِن تركناه، فتستهوينا لعبة الاستثناء والاختلاف غير أن الحقيقة في مكان آخر تمامًا.
على أي حال، لطالما كانت السلطة أحد الفضائح المحببة لمعاشر الرجال. سيمنحون الحياء إجازة مفتوحة، سيطلقون لمعادنهم العنان لكي ينخرها الصدأ. السلطة هي الديانة المقدسة التي حظيت بمريدين على مر التاريخ كانوا على أهبة الاستعداد للتفريط بأرواحهم من أجلها. لا خرافة يمكنها الخلود خارج مظلة السلطة. أضربوا معادن الرجال فلا تسمعون سوى صوت السلطة. أيًا كانت هذه السلطة حتى لو كانت صفحة شخصية في "فيسبوك".