17-أكتوبر-2021

وهب البعض من شباب العراق أرواحهم من أجل الاختلاف (فيسبوك)

تتضمّن الأصالة أن تكون جريئًا إلى حد كافٍ لتجاوز المعايير المقبولة. أنتوني ستور. نقلًا عن المترجم السوري محمود منقذ الهاشمي.

ما أن تنحرف بوصلة الاختلاف عن طريقها حتى نجد التكرار والنمطية ماثلة أمامنا؛ تكرار النسخ  الأفلاطونية المطابقة لمثالها والتي تستبعد كل النسخ "المشوهة"، و"الشاذّة" عن المثال المزعوم. لذا ليس من المصادفة العثور على عيّنات بشرية كثيرة تعشق تكرار نفسها، من قبيل استفحال العادات وصيرورتها هويات راسخة، وتكرار النسخ السياسية والاجتماعية ذاتها منذ قرن، لأنها نسخ مطابقة لجذرها المثالي الأعلى (الاستبداد أنموذجًا).

الجيل الجديد من شباب العراق  أصروا بشكل يدعو للفخر والاعتزاز على أن يضعوا لهم موطأ قدم في عالم الاختلاف

نسخة الاستبداد السياسي هي ذاتها مع الاختلاف بالأطر الشكلية، الاستبداد الاجتماعي هو عينه مع الزيادة المضطردة بالكميّة واتساع رقعة الأنصار، وشيوع حالة الجنون الجماعي. الحنين إلى الريع وعدم التفكير بتطوير البلد على مستوى الإنتاج وتحويل الربع النفطي إلى رأسمال اقتصادي هي السياسية المُتّبَعَة منذ عقود. المهم في الأمر أن حجم التكرارات يثير الرعب، وما من مساحة تضع نفسك فيها إلا ووجدت شبح التكرار وأصواته المخيفة تناديك من كل حدب وصوب.

اقرأ/ي أيضًا: وفاء لتشرين.. كلمات لا بدّ منها

المجتمع الذي تكثر فيه مثل هذه الظواهر هو مجتمع يحتقر الاختلاف بالضرورة، ولا يقيم وزنًا لكل عملية اختراق وتنقيب تسعى للبحث عن ممكنات جديدة. والمختلفون في عالم يعشق التكرار يُنظر إليهم كنسخ مشوهة عن أصلها ينبغي تحطيمها بأسرع وقت ممكن. ليس لأن أهل الاختلاف يعترفون بالنسخ الأفلاطونية ويتقبلون المثال ونسخته المطابقة، بل هذه وصمة اجتماعية اعتاد عليها المثاليون لأنهم يرعبهم الاختلاف؛ فكل مختلف هو مشوّه بالضرورة عند أرباب السلطة.

 أما المختلفون فهم لا يجدون عذرًا أو مشقّة من تعريف أنفسهم على أنهم فعلًا نسخ مشوّهة بطيب خاطر؛ نسخ مشوهة (متفردة) لم تنتجها معامل السلطة. إنّ المختلفين من حيث كونهم نسخ مشوّهة، أو أشخاص هامشيين لا يهمهم أن يكونوا متشابهين بقدر ما يهمهم ضرورة الاختلاف والاعتراف به كإمكان جديد للحياة، ولا يحزنهم هذا الأمر بل هو إيذان للخروج من دائرة الراعي الذي يجذبه الشوق دائمًا لقطعانه الوديعة. وهذه الأخيرة تبحث بلا كللٍ دائمًا وأبدًا لطاغية يستعبدها، إذ لا يهدأ لها بال إلّا وهي منقادة.

كل فرد في المجتمع هو صنيعة المثال الاجتماعي، وأعني بالمثال الاجتماعي مجموعة القيم الثقافية المتوارثة. وبمرور الزمن تغدو هذه الأخيرة في عداد المقدس والخروج عليها هو خروج من الشرعة المقدسة. لكن ليس كل الأفراد يتمثلون هذه القيم بنحو يجعلهم منصاعين لا شعوريًا للائحة القوانين التي تفرضها سلطة المجتمع.

تبدو درجة تمثيل الأجيال الجديدة للقيم الاجتماعية المتوارثة ضعيفة ولا تحظى بقبول بين أوساط الشباب. والمؤسف أن هذه الأجيال تُترَك وحدها لجهتين كما أظن؛ لغلبة الحماس عند عموم الشباب من جهة، وكثرة المطبّلين للسلطة، فيُنظَر للجيل الجديد على أنه جيل مارق ومتمرد على المثال المقدس، فيدخل في حرب غير متكافئة مع أنصار السلطة وتُستخدم ضده كل الأسلحة.

لا نستغرب من أن الغالبية العظمى من شباب تشرين هم ما دون الأربعين؛ هؤلاء الذين لم يرغبوا في البقاء تحت سلطة المثال المقدس، ولم يذعنوا لسلطة التقاليد، ولم تكن درجة تمثيلهم لثقافتهم الاجتماعية كافية لكي يندرجوا في دائرة الطاعة والاستسلام اللا مشروط للاستبداد الاجتماعي. لا نبالغ في القول بالتجرد التام عن التقاليد لدرجة الصفر! بل ليس كل الموورث شرًا مطلق، ولا نستطيع الفهم لولا هذا التراكم التاريخي. إذًا، ليست التقاليد الاجتماعية شرًا بذاتها بل تغدو شرًا حين تدافع عن نفسها وتغيب باقي الأشكال الاجتماعية المختلفة وتعطي لهويتها صفة الدوام والتأبيد.

هل نستغرب من هذه الحرب الضروس على التعددية والاختلاف في مجتمع مثل المجتمع العراقي لم ينخرط في الحداثة بعد؟ وهل نستغرب من مجتمع يقتل أبناءه ليس لشيء إلّا لأنهم مختلفون؟! وهل نستغرب مرة أخرى من أن التعددية والاختلاف تعد مشكلة اجتماعية وسياسية عويصة في المجتمع العراقي لدرجة أن من يتمثّلها يٌصَنّف في زمرة الفاسدين والإباحيين والأعداء؟

 لدي انطباع مفاده: إن الجيل الجديد من شباب العراق وضعوا على عاتقهم مجابهة هذا الجنون، وأصروا بشكل يدعو للفخر والاعتزاز على أن يضعوا لهم موطأ قدم في عالم الاختلاف. والمدهش أنهم وهب البعض منهم أرواحهم من أجل ذلك، وكانت الثمرة أنهم استطاعوا أن يلهبوا حماس الحاضنة الشعبية ليمثلوها في البرلمان.

وعلى الرغم من إمكانية ابتلاع هذا الجيل (أو هذه النخب السياسية الواعدة) من قبل الغول الاجتماعي والسياسي المتوحش بحكم الغَلَبَة والقهر، غير أنها وثبة شديدة الأصالة لأنها تشكّلت خارج إكراهات الجماعة، ولم تكن مدرعة بأسلحة الأيديولوجيا المقدسة، ولم تتعكز على ثقافة الترغيب والترهيب، ولم يكن بحوزتها المال السياسي السائب لتستخدمه في الانتخابات.

وهب البعض من شباب العراق أرواحهم من أجل الاختلاف وكانت الثمرة أنهم استطاعوا أن يلهبوا حماس الحاضنة الشعبية ليمثلوها في البرلمان

لكن حذار من التفاؤل الخادع؛ فالمعركة في بدايتها (وهذا ما سنفرد له مقالة خاصة) والنخب الشبابية خرجت توًا من معركة سلطوية اتسمت بقذارة متناهية وانحطاط عز مثيله، فقد وصل جزء من هؤلاء الشباب إلى البرلمان وننتظر الجزء الآخر يلتحق بهم لاحقًا. المهم في الأمر ثمة إنجاز يستحق الذكر حتى لو كان ضئيلًا، ويكفي أن هؤلاء من أبطال معركة الاختلاف والتعددية. أنه لأمر شديد الخصوصية أن يكون لك نخبة من الشباب- حتى لو لم يحرزوا شيئًا مهمًا في الوقت الحاضر- داخل البرلمان تؤمن بالتعددية والاختلاف في هذا العالم الذي يزداد جنونًا يومًا بعد يوم.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أصدقاء الديكتاتور.. عرس انتخابي أم إيماني؟

البحث عن عالم أفضل.. تشرين أنموذجًا