معظم العراقيين، على الأرجح، راودهم هذا السؤال الإشكالي: هل ستفشل الانتخابات لو عزف الناخبون عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع؟ هذا السؤال له ما يبرره؛ فالانتخابات السابقة كانت صدمة كبيرة لفئات واسعة، حيث كانت نسب المشاركة ليست بالمستوى والمطلوب، لكن اقتضت الإرادة السياسية المضي قدمًا بإنجاح هذا الكرنفال الانتخابي، وكانت النتيجة اتساع دائرة الإحباط واللا جدوى والعدمية عند مختلف العراقيين، لكن ظل فتيل الأزمة مشتعلًا تحت الأنقاض وسرعان ما تفجرت الجماهير وأعلنت رفضها القاطع لهذا الخراب، فانفجرت الكتل البشرية من فقراء العاصمة والمحافظات تطالب بالوطن المنهوب محاولة استرجاع القوة الشعبية ودورها في الضغط على السياسات الجائرة، فكان الثمن الذي تلقوه مذبحة بشرية راح ضحيتها مئات الشباب العزل، وقضوا نحبهم بين شهيد وجريح ومخطتف.
تشرين حدث وليس أشخاصًا وسيبقى هذا الحدث شبحًا يطل في كل مرة لو وجد الإمكانيات والظروف الموضوعية اللازمة
لم تنجح الانتخابات ولم تستطع الإرادة الشعبية من تصحيح المسار اللاحق لما يسمّى بالعملية السياسية، وأثبت الواقع، بمساعدة القوى السياسية طبعًا، أنه ما من شيء أرخص من الإنسان العراقي لو تعلّق الأمر بامتيازات السلطة؛ فسينقلب الطائفيون على أبناء طائفتهم، و يتنكّر الحزبيون لرفاقهم القدامى عبر المزيد من الانشقاقات، ويسارع العراقيون بمزيد من النزعات الانفصالية والانشغال بتقسيم النفوذ، ويتناسى المرشحون الجدد ممثليهم ومناطقهم المنكوبة. لكن ما نجحت به تشرين هو رفع الستار عن هذه العملية السياسية فظهرت عورات الجميع تحت الشمس، أي أنهم كشفوا حجم الزيف والأوهام والأساطير الطائفية؛ إذ أصبحت ساحة التحرير إلى مقبرة للشباب الذين تجمهم نفس الهوية الطائفية مع الأغلبية السياسية لهذه السلطة. وأثبتت تشرين كذلك أن مقولة "من قال برأسه هكذا، قلنا بسيفنا هكذا" لا زالت راهنة ولا تفرّق بين قريب وبعيد.
اقرأ/ي أيضًا: لغز مكوث تشرين: لحظة اكتشاف الهوية وإيجاد العائلة
إذًا، تم تغييب الإرادة الشعبية عمدًا وشل قدرتها السياسية المعارضة وجعلها في الهامش لكي تستطيع قوة البطش لاحقًا من استباحة دماء المعارضين بحجة خروجهم العمالة والتواطؤ ونحو ذلك. ثم تم تغييبها اجتماعيًا من خلال إعلام السلطة وجمهورها المطيع. واشتعلت شرارة الاستبداد الاجتماعي وتم تشويه هذا الحدث العراقي المهم، وأصبحت ساحة التحرير، بلغة الاستبداد الاجتماعي، مكانًا لـ"الداعرين"، والحشاشين"، و"اللوطيين"، و"الجوكرية"، و"أبناء السفارات"، ولم يدخر وسعًا محبو الاستبداد الاجتماعي في تثوير معجمهم الجماعي المقدس وهم يطردون شباب تشرين من جنتهم وإلحاقهم في القاموس الرجيم. كل هذا يحدث ليس لشيء سوى أن الجيل الجديد يبحث عن عالم أفضل، وكان لسان حال عشّاق الاستبداد وعبّاده: أن ما نتعايشه كل يوم هو أفضل العوالم الممكنة، وليس بالإمكان أفضل مما كان، فلا يحق لكم البحث عن عالم أفضل.
كانت ولا زالت الشرعية الوحيدة التي تستحق القتال من أجلها وتٌسال الدماء قربانًا لقداستها هي قيم الجماعة وما عداه بدعة. وبما أن مجمل العمل السياسي مٌنصبًّا على توزيع المغانم والظفر بالامتيازات الملكية وإضعاف مؤسسات الدولة ونشوء قوىً موازية تعمل بالضد من مؤسسات الدولة، فالنتيجة المنطقية المترتبة على هذا الخراب هو أشكال عدّة من الخراب، منها تصفية القوى المعارضة تحسبًا لأي نضج سياسي مستقبلي، وبث الأساطير التي تتماشى مع قيم الاستبداد، فلهذا الأخير جمهور غفير وحرس قديم ومقاتلون أشدّاء، ويمكنهم التنازل عن كل حقوقهم السياسية المُستَلَبَة إلا التفريط بالاستبداد وتغيب المختلفين وإسكات الأصوات الحرة، فغريزة الجمهور المستبد قوية للغاية فيما لو تعرضّت عبوديته الاختيارية للتشكيك. فلهذا وغيره تم تصفية تشرين طبقًا لمعجم الاستبداد المقدس، ذلك المعجم الذي تغيب فيه مفردة "عالم أفضل"، فحينما بحثوا في المعجم ولم يجدوا تلك المفردة الغريبة جنّ جنونهم وانتصروا لأربابهم وسقط عشرات الشباب مضرجين بدمائهم كشهود على خسّة هذا العصر وانحطاط قيم الإنسان لأسفل درك من القاع. غير أن تشرين حدث وليس أشخاصًا، فسيبقى هذا الحدث شبحًا يطل في كل مرة لو وجد الإمكانيات والظروف الموضوعية اللازمة.
اقرأ/ي أيضًا:
عامان وتشرين على قيد الحياة.. عصارة احتجاج فضح "التشيّع السلطوي"