إذا كان ثمة انطباع جيد في هذه الأيام العصيبة يمكننا أن نستأنس به هو عدم ضياع جهودنا طيلة العامين المنصرمين ونحن نكتب عن ضرورة التنظيم والتمرن على الممارسة السياسية. وها هو صوت تشرين يصدح في البرلمان العراقي. لا أعني أن الحدث كان بانتظارنا؛ أن نكتب ومن ثم يتحرك التشرينيون صوب التنظيم! وإنما أعني بالضبط نحن من شغلتنا تجربة تشرين وحاولنا جهد الإمكان أن نتعلم منها بوصفها حدثًا يلقي بظلاله على عقولنا ليفتح لنا آفاق جديدة ونحن نبحث عن عالم أفضل. فهم قبلنا أدركوا الحاجة ونحن بعدهم أدركنا ضرورة التفكير في هذا الحدث المهم.
أفضل ما يمكن أن يقدمه البرلماني التشريني في الوقت الحالي هو رباطة الجأش أمام المغريات
فإن كان ثم فضل يُذكَر فهو لشباب تشرين، إذ بفضلهم تفتحت إمكانيات جديدة للتفكير ولولاهم لكانت هذه المناطق تغطس في العتمة. لأجل هذا كله كانت خطوة الوصول إلى البرلمان ثمرة التنظيم السياسي وحاضنته الشعبية.
اقرأ/ي أيضًا: البحث عن عالم أفضل.. تشرين أنموذجًا
يبدأ التنظيم بوجود دافع حقيقي، ومن ثم يتحول إلى فكرة، وبالتدريج يتحول إلى ثقافة عن طريق السعي الدؤوب للتثقيف عليه. الجماعات غير المنظمة يتم ابتلاعها بشتى السبل من قبل التنظيمات الكبيرة سواء بالترغيب أو الترهيب، وستستخدم السلطة كل الذرائع لخلق ما هو مطابق لصورتها وتدمير كل ما يعارض حقها المزعوم.
كانت السلطة ولا تزال معملًا يعيد أنتاج الذوات حسب رغبتها. لذا من يسعى أن يكون خارج إكراهات السلطة فليفكر بالطرق اللازمة لذلك، وإلا سينتهي أمره إلى شقاق. والطرق اللازمة ـ رغم أنها ليست وردية - هو التنظيم السياسي. وقد اتضح ذلك جليًا لشباب تشرين بعد أن كان البعض منهم ممانعًا ضد فكرة التنظيم ومنشغلًا بقضايا مثالية لا وجود لها في الواقع.
بعد أن استطاعت بعض القوى التشرينية الفوز بعدّة مقاعد في البرلمان العراقي، يحسن بنا الآن الانتقال إلى خطوة جديدة؛ كنّا سابقًا نكتب عن ضرورة التنظيم، أما الآن فأضحى هذا الأخير من المتبنيات الرئيسية في خطاب التشرينين. وهم الآن يمارسون ما يسميه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بـ"ممارسة السيادة عن طريق التنظيم".
ولعله من المستحسن الوقوف معهم في هذه التجربة الجديدة ومجابهة الخطابات المثالية التي تحاول تجريد الواقع عن مضامينه الحقيقية وتطالب القوى التشرينية المتواجدة بالبرلمان بما لا تقدر عليه. ومن ثم تساهم بإنهاء التجربة والقضاء عليها بزمن قياسي وتبعد الناخبين عن ممثليهم عبر الخطابات العدمية واللا مسؤولة. فواقع السياسة العراقية محكوم بشروط معقدة، ومنها أنه محكوم بتوازنات طائفية تشكل العرف السائد في الخطاب السياسي العراقي.
يُستَحسَن الالتفات إلى هذه الحقيقة التي تشكل جوهر السياسية؛ إن الملفات السياسية الكبرى سيتم حسمها بيد القوى المهيمنة. والخطوة الأكثر أهمية هي دخول تنظيمات جديدة على الخط، وربما لا تسعفها القدرة على إحداث التغييرات المرجوة بحكم الواقع وشروطه المعقدة. قد تكون الرهانات الكبرى حالمة بعض الشيء، ولعله من غير المجدي الرهان على بعض القوى السياسية التشرينية في هذه الدورة الانتخابية. سيكون العمل الأكثر جدوى هو مراكمة الخبرة عن طريق الممارسة السياسية داخل الحكومة. وما يأتي أكثر من ذلك فهو زيادة خير. وقد لا تسعفنا الوقائع أكثر من هذا الرهان، وما عداه يمكن أن يسقطنا في فخ المثالية سيئ الصيت.
أفضل ما يمكن أن يقدمه البرلماني التشريني في الوقت الحالي هو رباطة الجأش أمام المغريات! وأنا كمواطن، لا يقدم ولا يؤخر، أنظر بإكبار وإعجاب على هذه الإصرار والشجاعة التي يمتلكها شباب تشرين (ولا أقصد الشتامين والسبابين والمخونين فهؤلاء لا يُعَوّل عليهم في المنعطفات السياسية الكبرى) لدرجة أنها أوصلتهم للبرلمان العراقي. القوى المهيمنة لا تقدم الورود ولا تسمح لما دونها بحق التصرف! لذا علينا ألا نتخذ القسوة والتنمر سلاحًا ضد هؤلاء الشباب، لأننا سنساهم بإسقاطهم من حيث لا نشعر. فرق كبير بين تقويم عمل البرلماني وبين تسقيطه. العمل السياسي في العراق يكون عملًا خطيرًا للغاية ولا يمكن لتسعة مقاعد أو أكثر أن تغير شيئًا من الملفات السياسية. علينا أن نكون حذرين من الجرع العالية من المثالية لأنها لا ترينا الوقائع كما هي بقدر ما ترينا نسخنا المشوهة عن هذه الوقائع.
وينبغي التذكير أيضًا، إن الكثير ممن تنمروا على الحدث التشريني ووصفوه بأقذر النعوت، ربما عليهم الآن مراجعة قناعاتهم. فقد ساهم هذا الحدث بخلخلة بعضًا من التوازنات السياسية، واستطاع بمدة وجيزة من اكتساب حاضنة شعبية آخذة بالنمو. وبالقياس إلى الوضع السياسي المرعب المسنود بقوة المال والسلاح والجمهور العقائدي الواسع، استطاع التشرينيون أن يضعوا لهم موطأ قدم في العملية السياسية. وبالقياس إلى المدة الزمنية الخاطفة فتعتبر هذه الخطوة فعل جبار بكل المقاييس. لذلك، ولأجل الحفاظ على هذا المكسب المهم، يبدو من الصواب عدم الاستعجال في إطلاق الاحكام الجزافية والمتسرعة لحين التحاق باقي القوى التشرينية في الدورة القادمة. سياسة طول النفس والتضامن وتوحيد الخطاب هي رأس المال الوحيد الذي تمتلكه هذه القوى. علينا أن نفهم طبيعة المرحلة والمنطق السياسي الملائم لها لكي لا نحرق المراحل ومن ثم نصاب بالإحباط.. رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، فهل سنشهد موجة شتائم وتخوين بحقنا نحن الذين لا نملك شيئًا سوى فضيلة التعلم على التفكير؟ لما لا فالأمر دائمًا وأبدًا سيكون كذلك.
اقرأ/ي أيضًا:
عامان وتشرين على قيد الحياة.. عصارة احتجاج فضح "التشيّع السلطوي"