أغلبنا يتفق على فساد هذا النظام. ولا تكاد تخلو أدبياتنا اليومية من أحكام مشتركة بخصوص هذا الشأن. ثمة نقاط جوهرية أضحت شبه مسلمات في ذاكرتنا أضحت طريقة تفكير نحلّل بها ما يجري. ربما عدد الناقمين على هذا النظام يفوق الأعداد المنقادة لأزلام السلطة بكثير، لكنّ الجانب الكمي قد يتحول إلى نقمة إذا أعوزه التنظيم الجيد والرؤية الواضحة. وانطلاقًا من هذه المؤشرات أو المشاهدات اليومية، للمكتوب والمقروء والمسموع، يمكن الاستنتاج أن ثمة إجماع ليس بالقليل يتبلور بمرور الوقت ويتّضح بجلاء حول الرفض الصريح لهذا النظام الفاسد.
رفض النظام الفاسد هو أول خطوات المقاومة، لكن الرفض ما لم يترجم عمليًا على أرض الواقع، فسيندرج في خانة الهذيان والشعارات الفارغة
ويأتي هذا الرفض بعد تجربة مريرة وفرز دقيق حول من هم في معسكر الأعداء. والرفض والفرز هو أول خطوات المقاومة، لكن هذه الأخيرة ما لم تُتَرجم عمليًا على أرض الواقع، فستندرج في خانة الهذيان والشعارات الفارغة. إن رفض الفاسدين يعني الانتصار لقيم العدالة المنصفة التي توفر المناخ المناسب لكل المواطنين على حد سواء. معنى هذا أن البدائل الموازية لهذا النظام متوفرة كشخوص نزيهة وذات دوافع نبيلة. لكن لماذا لم تظهر هذه الشخوص في هذا المعترك وتسارع للتخطيط على وضع برنامج عمل لاحتواء الجماهير الغاضبة وإقناعها بهذا البديل؟ حتى هذه اللحظة نحن نتكلم عن شخصيات روائية!، تعمل على خلقها مواقع التواصل الاجتماعي، وما إن تظهر إلى الواقع حتى تتلاشى. فبالتالي لا يوجد فارق كبير بين الناقمين وبين رجالات السلطة سوى بالدرجة، ذلك إن رجالات السلطة كانوا في يوم ما ناقمين على نظام البعث، فترجموا نقمتهم إلى برنامج عمل ثم أدخلهم المحتل ليتسلموا زمام الأمور، ثمّ اكتشفنا كم كنّا ساذجين!.
اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى تظاهراتنا.. الصراع داخل "طائفة الاحتجاجات"
صحيح أنهم لم يصمدوا أمام جبروت صدام حسين، لكن ما يعنينا هنا قدرتهم التنظيمية. يحضرني هنا قول لعلي بن أبي طالب أحفظه منقوشًا في ذاكرتي وهو "عجبًا والله يميت القلب ويجلب الهم اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم". علينا أن نعترف إننا حتى هذه اللحظة لم يتجاوز رفضنا حدود الكتابة. وبالطبع لا أعني تفجير العنف في بلدٍ مثل العراق، وإنما ضعفنا الواضح، للقاصي والداني، بخصوص التنظيم وإقناع الجمهور بصدق دعاوانا. فحتى هذه اللحظة لا تؤمن الناس بهذه النشاطات الروتينية والمملّة في غالب الأحيان، وقد وصلت الناس حدًا تجاوزت فيه إيمانها وكفرها بكل القيم (يمينها ويسارها ووسطها!).
صحيح أن التحديات جسيمة، ولا يمكن التنبؤ بالنتائج، فضلًا عن صعوبة الجماهير ومزاجها المتقلب، لكن أليس الظروف الحرجة والمؤلمة هي مخاض لولادة القادة الصلبين الذين يدركون الواقع وتناقضاته؟ طبعًا أنا كمواطن أتطلع لمثل هؤلاء القادة وكلامي عنهم تحديدًا، أما هؤلاء الذين يتقمصون أدوارًا أكبر من أحجامهم ويحاولون اختلاق خصومات تافهة، وربط الفشل الذريع الذي مُنيَ به الحراك الاحتجاجي بشخص أو شخصين ليتحوّلوا إلى شماعة لخيباتنا، فأنا كمواطن أعذرهم ولا أنتظر منهم شيئًا على الإطلاق. مثل هذه الآراء تجهل حقيقة مفادها: لو توفرت شروط الواقع وإمكانياته ورجاله الحقيقيين فمن المستحيل أن يتوقف هذا الحراك بسبب شخص أو شخصين!. لكن المزّاج - هذا الملعون- يتّخذ من أوهامه الخاصة حقائقَ علمية!.
الاحتجاج إستراتيجية وليس تكتيكًا حسب فهمي، لذا محاولة حصر النتائج المخيّبة التي مني بها الاحتجاج بشخصٍ أو تيارٍ أو مكان هو أمر قابل للنقاش. إنها ظروف معقدة وعصيبة لم تختمر بعد ولا أحد يتحمل عرقلتها، وإنما هي انعكاس واضح لوعينا الراهن. وضع الحراك الاحتجاجي في بؤرة ضيقة وحصره في مكان واحد - كساحة التحرير مثلًا- قّلل، في حينها، من حالة الزخم التي قد نشهدها مستقبلًا، وضرب العملية الاحتجاجية ضربة قاضية.
الاحتجاج ليس حركة تتموقع في مكان وتدور حول نفسها، بل ثقافة تتجذر بالتدريج، وتنتج فيما بعد نخب متبصرة لا تتورط بإسقاط آليات جامدة على الواقع.
برأيي الشخصي، إن كل حركة مستقبلية تجعل من حركات الإسلام السياسي هدفها الوحيد ستقضي على نفسها بنفسها، ليس لعدم نبل الهدف، أو التبرير للإسلاميين، وإنما رؤية هذه الحركات المؤدلجة كيف تقضي عليها تناقضاتها الداخلية وتضعف نفسها بالتدريج!، خصوصًا أنها لا تحظى بشعبية كبيرة ما عدا أتباعها من الانتهازيين.
ماذا نفعل إذن؟ أعتقد أن الهدف المقدس لكل تنظيم قادم أن يضع نصب عينيه بناء المؤسسات ومكافحة الفساد، والحالتان متلازمتان إلى حد ما، ذلك إن حجم الفساد المخيف الذي تمارسه هذه التنظيمات السلطوية نابع من غياب المؤسسات.
الهدف المقدس لكل تنظيم قادم لا يجب أن يكون لتمييز الهوية علمانية كانت أم إسلامية، إنما يضع نصب عينيه بناء المؤسسات ومكافحة الفساد
العَلمانية نتيجة منطقية لأي هيكل إداري وقانوني لمؤسسات الدولة، لذا الانشغال بالتميّز بالعلمانية لا ينفع وسط هذه المعمعة المدوّخة. المشكلة لا تكمن في تميّزنا عن الحركات الدينية، لأننا سنجدها أمامنا في البرلمان، وقد تقتضي المصالح عقد تحالفات معها، (خصوصًا أن إفراز تيار علماني واسع في العراق أمر سابق لأوانه)، وإنما أن نميّز أنفسنا باعتبارنا بناة دولة ونتحلّى بالنزاهة، وأن لا تغرينا المناصب السيادية. لذا أهم نقطتين لكل تنظيم قادم، هي مكافحة الفساد، وبناء الدولة فهما نقطتا انطلاق لكل حراك يبتغي التقرب من الواقع.
تذمّر بلا رؤية
معظم المقاطعين هم على الأغلب عازفون عن المشاركة، ويكتفون بالتذمر والغضب من هذا النظام الفاسد، فلا يملكون رؤية كافية، كما انهم ليسوا كتلة متجانسة تحمل نفس الأهداف والرؤى. فمحاولة جعلهم في قالب واحد وتسويقهم بهذا الشكل، سيوقعنا في متاهة المنطق التبسيطي والحماسي والرغبوي. أصحاب الرؤى وممن قاطعوا على أسس موضوعية قد لا يتجاوزون عدد الأصابع، أما نحن العازفين فتحرّكنا النقمة من هذا النظام، وهو أمر منطقي كذلك ومن حقنا رفض هذا النظام الفاسد. لكننا - بالنسبة لمن يشاركني هذا الرأي على الأقل- نصنف حالتنا كحالة عزوف، لماذا؟ لأننا لا نملك البديل الموازي أمام المد التنظيمي لأحزاب السلطة وجيوشها الجرّارة، وأقل ما يمكن توفيره من بديل هو فرز نخبة وطنية عقلانية تمثلنا، وهذا ما لم يحصل ولن يحصل في المستقبل القريب كما أظن. فمن هذه النقطة بالذات ينبغي أن لا يعمينا حماس "الشماتة" والتشفي من أمنيتنا "الخيالية؟" في تأسيس خط مواز يختلف، فكرًا وسلوكًا، عن الفاسدين. فالمقاطعة لا تعني شيئًا إن بقيت تدور في فلك الحماسة، فهذه الأخيرة لا تؤسس سوى مسرح بلا جمهور!.
اقرأ/ي أيضًا:
تظاهرات حصرية "للعلمانيين" في العراق.. محاربة الطائفية بأسوأ منها