27-أغسطس-2020

مصطفى الكاظمي (Getty)

بالنظر لطبيعة الأحداث الأخيرة في البصرة وتبعاتها على المحافظات الأخرى لا يبدو أن بالإمكان فهم طبيعة الاشتباك السياسي دونما أخذ رئاسة الكاظمي للحكومة بنظر الاعتبار وخطواته التي توصف بـ"الجريئة" حتى لو لم تكن فاعلة إلى الآن تجاه المنافذ كمثال. لسنوات وبنية النظام السياسي في العراق تُبنى على عكس مسار الدولة كدولة بسياقها العام من قانون ومؤسسات، بنيةٌ تصنع لنفسها نموذجًا خاصًا بها، يعتمد بالأساس على تضخيم السلطة الحزبية بذراعها المسلح لإدارة البلاد كبديل عن الدولة.

اعتاد الحاكمون الفعليون على ذلك مع كل دورة انتخابية بتقسيم الحصص والاتفاق على رئيس للحكومة يفهم سياق العمل لتبقى الحالة العراقية كما هي، لكن وصول الكاظمي لرئاسة الحكومة كان على مضض وتحصيل حاصل فرضته أحداث الأول من تشرين بعد تمكنها من الإطاحة بحكومة عبد المهدي. يعتبر المخضرمون أن الكاظمي يُشكل خطرًا لأنه، ووفقًا لحساباتهم بعيدًا عن رأي جمهورهم، جسم غريب اخترق حدود مملكتهم، وقد بدا ذلك واضحًا بعد مشاكساته التي بدأت بمزدوجي الرواتب، ومن ثم عملية الدورة وصولًا للمنافذ، وهذا ذكر لأحداث لست بصدد المدح والذم والتقييم لها. 

هناك أشبه بالعقد بين المتظاهرين والكاظمي، والإخلال به يعني الرحيل مع تحمل التكلفة الباهظة 

يتضح حتى الآن أن الطرفين يستفيدان من بعضهما، يغذي أحدهما الآخر للاستمرار، الكاظمي وخصومه، أو كما يقال على مستوى الصياغة الصحفية الدولة واللادولة بقصد أو من دونه، فمجريات الأحداث هي من جانب القوى التي تملك السلاح لفرض ما تريد، أو على أقل تقدير، تمارس الضغط وترن أجراس الصواريخ ليلتفت لها الخصم، ومن جهة أخرى، هناك توظيف للحدث سواء على مستوى الحراك الاحتجاجي أو العنف المتصل به صواريخ أو اغتيالات، وبالنهاية؛ هي كلها رسائل متبادلة بين الطرفين. 

اقرأ/ي أيضًا: سفن إيران ورياح القوات الأمريكية: معادلة مهددة

يستثمر الكاظمي في غباء خصومه، وهذا لا يعني القرار له بالذكاء وهو يلعب على عامل الوقت في الكشف عما يعرفه عن عمليات الخصم المسلح، ولربما يريد بها معرفة مساحة تحركه المقررة له من قبل الكبار للطبخ على نار هادئة، لحين موعد الانتخابات وما تحمله من مشروع سياسي ربما يكون ورقة الدخول للبرلمان كرقم جديد في المعادلة، وهنا تكمن مخاوف الأحزاب التقليدية من منافسة جادة تستثمر مزاج الشارع بشكل صحيح، وتدخل في مشكلة التزاحم على الحصص. تدرك الكتل السياسية ذلك لكنها بين نارين، بين محاولة إسقاطه قبل الندم، لكنها لا تملك ترف الخيار هذه المرة مع ظروف أمنية وصحية واقتصادية متغيرة، وبين تركه يقضم الجرف والتسليم بالخسارة حتى وأن كانت بأقل ما يمكن. 

تتحرك هذه الأحزاب الآن على وتر واحد لتشويه عزف الحكومة الحالية، وهو الشارع، ومحاولة استنساخ لحظة سقوط عبد المهدي بالطريقة ذاتها عن طريق الشارع وتأجيجه تارة بالخدمات، وأخرى بمناوشات في ساحات التظاهر غايتها سقوط ضحايا للدفع باتجاه التصعيد. 

المتظاهرون، لم يسكتوا ليسمعوا ذات الخطاب السياسي الجامد، والذي بات مملًا ومستفزًا لأنه علامة الكذب من الكاظمي، هنالك ما يشبه العقد بين الطرفين، والإخلال به يعني الرحيل مع تحمل التكلفة الباهظة، يعرف الثمن أكثر من غيره رئيس الحكومة، وأن غفل، فإن ما يسمى بـ"مستشاريه" ليسوا ببعيدين عنه لتنبيهه على الوقت وضرورة حسم الأولويات التي صار رئيسًا لأجلها. 

إن جماعات السلاح تعرف أيضًا، أن مساحة نفوذها لم تعد كما كانت في السابق بفعل المتغيرات على مستوى ما بعد تشرين، بالرغم من ردة فعلها ذات الطابع الانتقامي، لكنها تعرف أن طالعها سيئ، وتعيش اسوأ أيامها تخبطًا بعد مقتل المهندس وسليماني، وبالنهاية، هي لن تضحي بما كسبته في السياسية على ما حققته بسطوة السلاح. ستناور للحفاظ على ما تستطيع الحفاظ عليه لجولات أخرى لا ترغب بخسارة كل ما ملكته دفعة واحدة، يبقى الفاعل السياسي الجديد الذي ينبغي أن يأخذ دوره، وهو النموذج الجديد الذي لا بد أن يقرأ المعادلة كما هي ليعرف أين يرمي نرده ليصيب، لكنه يفتقر لجرأة المجازفة للمشاركة لأسباب عديدة سنتحدث عنها لاحقًا لم يحسمها إلى الآن، وهذا الفاعل هو ما ينتظره الناس من انتفاضة تشرين. 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مركبة الحكومة والأحزاب وطريق حسان دياب

قراءة في مضامين زيارة الكاظمي إلى واشنطن