14-يوليو-2020

كل واحد من الشباب أراد أن يكون صفاء السراي في يوم ما (Getty)

أعتقد أن السؤال الأصعب في العصر الذي نعيشه الآن، هو ما الذي يحتاجه الشعب؟ ولا تكمن الصعوبة في التشخيص، بل لأن ترميم بناية من الخراب أكثر صعوبة من بناء واحدة جديدة على أرض قاحلة. 17 عامًا وهذه البلاد لم تستطع أن تقف باستقامة الملوك، أو تزحف مثل طفل، أو ترجع إلى الوراء، أنها مثل بئر يتلقف الحجارة في جوفه كل يوم! لكنني سأتكلم اليوم عن السلوك الجمعي للشعب، وكيف صُنعت الأخلاق العامة لتلائم حالة الخراب التي تشهدها البلاد.

صنعت السلطة في العراق رموزًا طائفية تنسجم مع حالة الانحطاط الذي تصدره للشارع للهيمنة على كل شيء

في أغلب البرامج الميدانية، عندما يوجه المراسل سؤاله لامرأة كبيرة في السن عن ما الذي أصابنا، تجيب: "يمّه عدنة أزمة أخلاق"! والسؤال هنا؛ ما هي الأخلاق؟ تعرف الأخلاق اصطلاحيًا بأنها مجموعة من القواعد والعادات السلوكية التي يعتنقها مجتمع ما، مع ذلك بقيت هذه القواعد طائرة في الفضاء ونسبية، فمثلًا شرب الكحول عند أغلب الفقراء في بعض المجتمعات أمر غير أخلاقي، لكنه عند الأغنياء مدعاة للفخر والتباهي..  يقول ماركس إن "الأخلاق هي صناعة الأقوياء والمترفين لاستعباد الضعفاء والمعدمين"، وهنا يرى ماركس أن القيم الأخلاقية هي صناعة من المترفين، ويرى أن الطبقة المسيطرة اقتصاديًا هي الطبقة المسيطرة أخلاقيًا، وهي من تهيمن ثقافيًا كذلك، بينما يرى نيتشه أن "الأخلاق هي من صناعة الفقراء والمعدمين، وأنها حيلة للضحك على الأقوياء لكي يأخذوا منهم المكاسب والمنافع"! وغالبًا ما نسمع أن الفقير لا يملك غير كرامته وأخلاقه، لكن هذه الرؤية تواجه بالسؤال الدائم والإشكالي تقريبًا: من يصنع هذه الأخلاق؟ وما هي قوة الفقراء في التأثير سياسيًا واقتصاديًا ليصنعوا الأخلاق؟ 

اقرأ/ي أيضًا: سوسيولوجيا المجتمع العراقي ما بعد 2003.. في شخصية الفرد

في السابق، كانت "القيم العامة" تخرج من هوية المجتمع التي تستند إلى أدبيات وثقافة وطنية مشتركة تصنعها الدولة، وكانت وسائل الإعلام الرصينة تصدر رموزًا ليقتدى بهم، سواء كانوا إعلاميين أو صحفيين أو فنانين.. في مصر مثلًا، عندما مات العندليب، كانت جثث النساء تتطاير من الشبابيك، وهي ليست دعوة للحب المفرط الذي يؤدي للانتحار، لكنها إضاءة لمسيرة رمز فني قدم رسالة يقتدى بها.  

في العراق، كان السلك العسكري هو الحاكم، وكان يفرض الهيبة والاحترام لأنه يمثل رمزية كبرى في الخطاب العام للدولة وهيمنتها، لدرجة أن الكلام عن الارتباط بفارس الأحلام في المجتمع كان يختم بضابط "أريد اتزوج ضابط"، بينما الآن صار السلك العسكري ظلًا لقوى أكبر، وأصبحت الكلمة للميليشيات بعد أن صارت الحياة بأمر منها، وهو دلالة على شكل النظام الحالي وصناعته لهذه الثقافة!

في الشاشة على سبيل المثال، وقبل أن تقتحمنا عمليات التجميل و"أبر البوتوكس"، كان الكلام السليم والمادة الدسمة هي ورقة المقدمة التي تدخل كل بيت، لا عدد العمليات التي أجرتها! بينما الآن، صارت الإعلامية "مودل"، وصار الإعلامي مبتزًا، وصارت القنوات موزعة على أساس طائفي يخدم مصلحة طائفة ما أو جماعة مهيمنة في الشارع، وكل هذه الأشياء تنبئنا بأن هنالك أزمة في الرمز المؤثر لا في الأخلاق فقط، وهي حالة تنسجم مع الانحطاط السياسي الموجود والخطاب العام الذي من المفترض أن يصدر للناس من قبل الوسائل المقروءة أو المسموعة.

اليوم نرى، أن كل الشخصيات المتصدرة للمشهد العام هي محط سخرية للآخرين، الشباب اليوم يسخرون من الضابط، من الفنان، ومن رئيس الدولة، لأنهم كلّهم محط سخرية، على عكس ما حدث قبل عدة أشهر، حين صنع الشارع رموزه الوطنية التي ستكون أيقونة للحقوق واستعادة الكرامة. في انتفاضة تشرين مثلًا عندما صنع الموت أول رمز في ساحة التحرير صفاء السراي. وقع صفاء وهو يصرخ بوجه الحياة، وكان لوقوعه صدى شبان آخرون تلقفوا رسالته وواصلوا الصراخ، صفاء أصبح رمزًا يقتدى به، رمز البطولة والشجاعة والإخلاص والإيثار، وهو الشاب الفقير الذي يحلم بوطن خال من الجشع. شعر الآخرون بأهميته وأدركوا معنى أن يموت شابًا في مقتبل العمر، بينما تنبت سيرته في الحياة مثل شجرة معمرة، كل واحد أراد أن يكون صفاءً في يوم ما، البطل الذي لا شيء لديه أثمن من الأرض والوطن وحقوق الناس.

شعر الشباب بأهمية صفاء السراي وأدركوا معنى أن يموت شابًا في مقتبل العمر، كل واحد منهم أراد أن يكون السراي في يوم ما

بينما في الجانب الآخر، سيطرت السلطات على المشهد العام، وقدمت أشخاصًا يشبهون دمى الأفلام المتحركة، لولا الصوت الخارجي لكانوا صورة جامدة لا تستطيع أن تحرك أصبعًا. فنانون وإعلاميون، شعراء وكتاب وقادة وسياسيون، أنها القوى التي غيرت شكل الأخلاق وصنعت رموزًا من الكارتون!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مَن يُفسد مَن؟

نيويورك تايمز تحتفي بـ "ابن ثنوة".. هل هذا أنت يا صفاء؟