06-مارس-2023
المدارس العراقية

طرائق التدريس في العراق لا تمنح الطلاب لذة الاكتشاف (Getty)

حكى لي أحد المسنين حكاية ذات مغزى، وهي أن ملكًا أراد في أحد الأيام أن يطمئن على شؤون مملكته، وكان همه الأقصى التأكد من مقدار الوعي العام الذي تتحلى به رعيته. طلب المشورة من أحد وزرائه، فرد عليه هذا الأخير: التمس من جلالة الملك أن يمنحني أذنًا بجمع الناس في الساحة العامة وسأختبرهم بنفسي. وافق الملك فاجتمع الناس بأمر ملكي. صرخ الوزير بالناس قائلًا: روي عن مأثورنا الديني أن من استطاع أن يوصل طرف لسانه إلى شحمة أذنه فسيدخل الجنة. انشغل الناس بهذه التجربة الفريدة، وقام كل واحد منهم محاولًا إيصال طرف لسانه إلى شحمة أذنه. نظر الوزير إلى الملك وقال: أنظر جلالة الملك، أن شعبك فاقد للتحليل على الإطلاق، وهذا ما يمكنك القلق بشأنه.

المناهج العلمية التي تعطى لطلاب المدارس مهمة لكن طرائق التدريس في العراق تجعلها تافهة للغاية

من دون أدنى شك لا ننتظر من عموم الشعب أن يغدو شعبًا محللًا. فالشعب في نهاية المطاف شرائح وفئات تجمعها مصالح متباينة وإمكانيات تختلف من شخص إلى آخر. بيد أن الفئات المتعلمة ينبغي لها أن تتمايز عن عموم الناس. ومن هنا ترصد الحكومات المتقدمة مبالغ طائلة للاستثمار في التعليم نظرًا لعائداته الاقتصادية الضخمة. فهو رأسمال لا ينضب، وإذا جفّت آبار النفط، أو قل الطلب عليه، فالمهارات البشرية لا يجري عليها ما يجري على الثروات الطبيعية، بل هي أغنى بما لا يقاس من تلك الثروات الطبيعية ذات الأجل القصير فيما لو قارنّاها برأس المال البشري.

ينقل تشارلس ويلان في كتابه الممتع "الاقتصاد عاريًا"، دراسة أجريت عن الأداء الاقتصادي لسبعة وتسعين دولة على مدار سبعة وتسعين عامًا، أن معدلات النمو كانت أعلى في الدول التي ليس بها موارد طبيعية.. ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى حجم النمو الاقتصادي في بلدين لا يتمتعان بثروات طبيعية، اليابان وسويسرا، وهما أغنى من روسيا الغنية بالثروات الطبيعية. ولا يحتاج الموضوع إلى كلفة تحليلية لمجرد أن نضرب هذا المثال، الذي ذكره أحد الاقتصاديين، وهو أن بيل غيست، على سبيل المثال، لو فقد جميع ثروته البالغة خمسين مليارًا، يمكنه استردادها بالاعتماد على رأسماله الباهظ وأعني به مهاراته الشخصية؛ ستسارع الشركات الكبرى لتوظيفه كمستشار أو مدير تنفيذي، وبهذا يمكنه استرداد ثروته المفقودة. فالرجل ليس لديه نفط ولا غاز بل يمتلك عبقرية استثنائية ورأسمال بشري يتفوق بأضعاف على كل براميل النفط!

وبالطبع كلما كان المواطنون متعلمين يغدو إنشاء المؤسسات الحكومية الفعالة أسهل بكثير فيما لو كان العكس، أي حين يكون التعليم عبارة عن محفوظات وتلقينات تطال حتى المناهج العلمية ذات البعد التجريبي. فنظامنا التعليمي يرادف بين الخطابة والمعادلات العلمية ويضعهما في سلة واحدة: على الطالب أن يكون جهاز محاكاة يحفظ معادلات الفيزياء والكيمياء مثلما يحفظ قصيدة للجواهري والمتنبي. حتى النصوص الأدبية، فأنت تحكم عليها بالإعدام حين تحولها إلى محض تلقينات وتعدم فيها الجانب التحليلي والذائقة الجمالية.

المدارس

 

المناهج العلمية التي تعطى لطلاب المدارس هي مهمة بكل تأكيد. لكن طرائق التدريس تجعلها تافهة للغاية. النشأة التاريخية لهذه العلوم العظيمة قامت على التجارب المختبرية. في حين طرائقنا التدريسية العجيبة تحيلها إلى محفوظات شعرية، وتقاس درجات الذكاء (أو بالأحرى: النجاح) على إمكانيات الطالب التلقينية. صحيح أن بعض المعادلات العلمية تحتاج إلى حفظ، وصحيح أن الطالب في مراحله الدراسية الأولى يحتاج إلى تنشيط ذاكرته ببعض المحفوظات، فالقليل منها لا يفسد مخ الطالب بالتأكيد، بيد أن الأساليب التربوية الشائعة جعلت من الاستثناء قاعدة جوهرية.

إن تحويل هذه العلوم المهمة والحيوية إلى مقررات تلقينية تضع المرء في حيرة من أمره ويتساءل عن جدوى حشر هذه المناهج في المقررات الدراسية بمعزل عن المختبرات والأنشطة العملية، التي تمنح الطلاب لذة الاكتشاف و التعرف على مهاراتهم الحقيقية، وتنقذهم من روتين التلقين الممل. بدلًا من أن يتحولوا مثل رعية الملك: فاقدون للحس التحليلي ولا يهمهم سوى ما قيل، وعليهم أن يحفظوه عن ظهر قلب.

بهذه الطريقة البائسة لا يمكن اكتشاف القدرات العلمية الحقيقية للطلاب، بل ستكون مقدمة للنفور واللا أبالية، وينشأ جيل كاره للتعليم وطرائق التدريس الروتينية. خذ على سبيل المثال، وليس الحصر، هذا التعريف في درس الكيمياء للصف الثاني المتوسط، "أنواع التفاعلات الكيميائية: 1-الاتحاد، 2-التفكك، 3-الاستبدال، 4-ماص للحرارة، 5-باعث للحرارة". ماذا يفهم الطالب من هذه الألغاز العلمية؟ لا يفهم شيء سوى أن الكلمة الأولى تتكون من سبع حروف! والثانية تنقصها بحرف واحد، والثالثة من تسع حروف، وهلمّ جرًّا، فيتحول تركيز الطالب هنا إلى آلة حافظة ينحصر نشاطها في تهجئة وحفظ الكلمات بشكل جيد، وسيندرج في قائمة "الشطّار" لو اجتاز امتحان حفظ التعريفات العلمية.

طرائق التدريس في العراق لا تمنح الطلاب لذة الاكتشاف و التعرف على مهاراتهم الحقيقية

قد يقال هنا إن المراحل المتوسطة والثانوية هي بالأساس مراحل تمهيدية للدراسات الجامعية "المتقدمة" التي تحظى بمختبرات تخصصية لقسم العلوم. بيد أن البلدان التي تعمد بشكل أساس على رأسمالها البشري وتسعى لتشييد بنية تحتية علمية عبر التعليم والتدريب المتواصل لا تأخذ هذه الفكرة على محمل الجد، بل ستكون المراحل المتوسطة والثانوية هي نقطة الانطلاق الحقيقية وليس العكس. لكن هل تنفع هذه الهموم الوطنية والتساؤلات، وسط منظومة سياسية واقتصادية لا تعي مخاطرها المستقبلية، مفضلة الاحتراق بنفطها الأسود؟