16-أكتوبر-2022
علي حاكم صالح

علي حاكم صالح ومؤلفاته (ألترا عراق)

يمكن للباحث والمتابع للمسار العراقي أن يؤشر ضعفًا في العلوم الإنسانية، وهو ما يمكن الحديث عنه أيضًا مع بدء عهود الاستبداد. تكره الأنظمة الاستبدادية كل ما تنتجه العلوم الإنسانية، ومنها الفلسفة التي يعتقد الأكاديمي علي حاكم صالح أن هناك نبذًا لها في العراق مع جميع العلوم الإنسانية.

علي حاكم صالح: لا إصلاح يمكن أن يحدث في المؤسسة الأكاديمية إلاّ بإصلاح يشمل جميع مناحي الحياة في العراق

يعتقد صالح أن الفلسفة تشهد فقرًا في العراق، مثلها مثل الصناعة والزراعة، لكن ما العلاقة بينهما؟ يتساءل صالح، ويجيب أنه غياب الذات المنتجة ماديًا وبالتالي فكريًا. والأمر هو تراكم لعقود من الاستبداد وغياب الثقافة السياسية، وهي آثار تجلّت بشكل واضح في عهود البلاد الأخيرة، حتى أن ما حدث بعد 2003، كان كامنًا وتفجر، بحسب علي حاكم صالح الذي لا ينسى أن يشير إلى ما تشهده الجامعات العراقية اليوم التي تنقلت من قبضة الاستبداد إلى تحكم ما يسمى بـ"المحاصصة".

في هذه المساحة، حاور "ألترا عراق" الدكتور علي حاكم صالح عن الفلسفة وشؤونها اليوم، والهوية والدولة وإشكالات التأسيس والأيديولوجيا داخل هذه الخارطة. وصالح هو أستاذ في الفلسفة ومترجم له بضعة دراسات تخص الثقافة العراقية وكذلك العديد من الترجمات عن الإنجليزية. إليكم نص الحوار كاملًا:


  •  ما هي شؤون الفلسفة الآن وما هو رهانها المرتجى في عالم مشدود على الدوام بكرات النار والمشاكل الأخلاقية والتواصلية بين الناس؟

العالم كان، وسيظل على الدوام في حالة اضطراب. الإنسان أشكل عليه الإنسان كما يقول التوحيدي. كانت الفلسفة تستجيب دائمًا لمشكلات العالم واضطراباته. وبالتأكيد اليوم صارت بعض المشكلات كونية، مشكلات البيئة على سبيل المثال، وما تفرضه على الإنسان من تحديات مصيرية. ولكن القرن التاسع عشر أيضًا كان مضطربًا، وتأثرت الفلسفة بذلك استجابةً وحلولاً. ماركس مثلًا كان ابن القرن التاسع عشر حقيقة، ورأى أنّ مشكلات مجتمعه، الاستغلال الرأسمالي، ستصبح يومًا مشكلات عالمية. ليس ماركس وحسب، الفكر الاجتماعي كان قد ظهر لحل مشكلات مجتمع متحول. العالم دائمًا في حالة تحول.

وهكذا في كل أزمان الفلسفة. الفلسفة ابنة عصرها دائمًا. ولو أن هذه الصلة قد لا تبدو أحيانًا واضحة ومباشرة، بسبب طبيعة التفكير الفلسفي وآلياته، فضلاً عن أن فورية الاستجابة قد تتعطل أحيانًا أو تتأخر ريثما تتمثلها الفلسفة مفاهيميًا، ولكن اليوم ثمة استجابات سريعة وفورية. خذ مثلًا الاستجابة التي بدت من بعض الفلاسفة والمفكرين تجاه فيروس كورونا، كانت استجابةً فوريةً حتى أن كتبًا صدرت في حينه "تعالج"، نعم تعالج على طريقتها الخاصة، وتتأمل في هذا الوباء، كان انتشارها، أعني الكتب، ربما أسرع حتى من انتشار الفيروس. ولكن ذلك يعود أساسًا إلى التغطية الشاملة التي يعرفها العالم بفضل وسائل التواصل الكثيفة والطاغية الحضور. وهذا الحضور لوسائل التواصل، الإعلام، صار أيضًا موضوعًا مهمًا في الفكر الفلسفي الراهن لأنه هو نفسه يثير ويطرح تحديات تصورية تخص التواصل وآلياته ومساراته، بل تخص مفهوم الزمن، وتخص مضامينه الأخلاقية والجمالية. ولكن هل تحقق وسائلُ التواصل تواصلاً حقيقيًا إنسانيًا، أم نها تكرس، بل وتوسع من، الصراعات بين البشر؟

شاعت موضوعات عابرة للتخصصات الفكرية والمعرفية: الحرية، والمجتمع المدني، والتعددية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والاعتراف، وغير ذلك. أظن أن الفلسفة السياسية تجد اليوم لها حضورًا أكثف، ربما حدث ذلك بعد انهيار النموذج الشيوعي، وانتشار الحديث عن الديمقراطية، وشهدت هذه الموضوعات حضورًا أكثف بعد ثورات الربيع العربي. فاليوم، على عكس ما كان في منتصف القرن العشرين، لن نجد، إلاّ نادرًا، نظامًا لا يدعي الديمقراطية بما في ذلك النظم الاستبدادية القائمة نفسها. فالجميع يدعي الديمقراطية، لم تعد الدكتاتورية في أدبيات الفكر السياسي بما في ذلك تلك الأحزاب التي كانت يومًا شمولية (توتاليتارية).

من جهة أخرى، الفلسفة نفسها أيضًا، يجب أن نؤكد، ليست خطابًا واحدًا متماسكًا، إنما هي أيضًا شأنها دائمًا تنطلق من "مواقع" وتعبر، صراحة أم ضمنًا، عن مصالح جماعات أو طبقات أمم أو حضارات أو دول.

  • على مدى مائة عام من تأسيس الدولة العراقية الحديثة، كيف تصف النشاط الفلسفي على مستوى الدرس الأكاديمي وصناعة المفاهيم والأفكار الحديثة إزاء متغيّر الدولة والمجتمع الذي تشكل بعد تشكل هياكل الدولة؟

وفر تأسيس الدولة نوعًا من بداية تشكل مجتمع عراقي حديث، عرف لبضعة عقود قليلة استقرارًا نسبيًا، نمت فيه، وبسرعة لافتة، ثقافة عراقية مرتبطة بالثقافة العربية والعالمية بالتأكيد، وعرفت نموًا طيبًا في التخصصات المعرفية الأكاديمية. والفلسفة شهدت الشيء نفسه، ولكن فقط لفترة محدودة. الفلسفة تموت في ظل أنظمة شمولية. لم تكن الدولة ولا المجتمع، بكل ما يتعلق بهما من مفاهيم وتصورات ونظريات متباينة ومتناقضة، موضوعًا يمكن تناوله بحرية في ظل نظام استبدادي. وإذا ما كان هناك تناول لهذا الموضوع فكان ضمن شروط لا تحدد الموضوع فقط، بل تحدد حتى النتائج. بمعنى لم تكن الدولة والمجتمع إشكالية في التفكير الفلسفي في العراق لعقود ليست قليلة. بشكل عام يمكن القول إن الدولة غابت حتى في أدبيات الفكر الفلسفي القومي مثلاً، لأن محور التفكير كان الأمة وليس الدولة.

حال الفلسفة في العراق كحالها في العديد من البلدان العربية، وربما نموذجنا أفصح. فثمة فقر بيّن، نتيجة السياسات التعليمية السابقة والحالية، وغياب الفحص الدقيق للعلاقة بين الجامعة والمجتمع. وأعتقد أن هذه المسألة لا تشغل أذهان المعنيين. ضعف التعليم وتخلفه يترك أثره في كل النتاجات النهائية في الفروع العلمية. ثمة نبذ لا أدري إن كان متعمدًا ليس للفلسفة حسب، بل لجميع العلوم الإنسانية. وهذه، مثل غيرها من العلوم أو ربما أكثر من غيرها، تعكس المستوى المتدني في تلك السياسات. فنحن فقراء في الفلسفة حالنا حال فقرنا في الصناعة والزراعة. ما العلاقة بينهما؟ العلاقة هي غياب الذات المنتجة ماديًا وبالتالي فكريًا.

حسب التحليل الذي قدمته في كتابك الأيديولوجيا وتمثيلاتها الفلسفية في الفكر العراقي الحديث، فإن الأيديولوجيا هي التمظهر العملي للفلسلفة، في بلد مثل العراق تلاقفه الشحن الأيديولوجي منذ لحظة تأسيسه وكان ساحة لصراع الأيديولوجيات المشهورة، هل كانت هذه الأيديولوجيات تشتغل وفق إطار نظري متلائم مع رهانات العراق دولةً ومجتمعًا، أم أنها كانت مجرد صدى لما يكتب ويعمل عالميًا، بمعنى هل كانت هذه الأيديولوجيات تنطلق من رهانات الواقع العراقي؟

جميع الأيديولوجيات التي شغلت الساحة العراقية، سواء تلك التي حكمت أم كانت تعمل خارج النظام السياسي، كانت ترى نفسها معنيةً بمشكلات الواقع العراقي، ولكن بفحص سريع يتبين أن أفكارها وشعاراتها وانشغالاتها كانت أوسع من هذا الواقع. وبالتالي كانوا كمن يُلبس الواقع ثوبًا أوسع منه لا ليعالجه بل ليغطيه، يحجبه. كنا نتربى ونتعلم على أشياء كثيرة تخص شعوبًا كثيرة ولكننا لم نكن نعرف الشيء الكثير عن مجتمعنا العراقي.

الجميع، تقريبًا، كان يفكر بالفكرة اليوتوبية (القومية، اليسارية، الدينية)، والنتيجة أنه لا الفكرة تحققت، وما كان لها أن تتحقق، ولا حافظوا على الواقع الذي كان بين أيديهم. رفضوا "الجزء" لأنه، في نظرهم، كان زائفًا، وسعوا وراء "الكل" لأنهم توهموه هو الحقيقي، والمحصلة خسارة الاثنين. الجميع كان يرى نفسه المنقذ، فيضطلع بدور الوصاية. والوصاية تقود حتمًا إلى الاستبداد.

 ومع ذلك، كان هناك فكر سياسي واقعي، ربما ظهر مبكرًا، منذ مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، مثلته توجهات ديمقراطية إلى حد ما كما لدى جماعة الأهالي، ولكنه ظل نخبويًا، وتلاشى تقريبًا كأفراد وتوجهات بعد سيادة العسكر.

  • للدولة أجهزة أيديولوجية إضافة إلى أجهزتها المادية. وظيفة الأجهزة الأيديولوجية للدولة صناعة تصور إدماجي للمجتمع يتماهى مع فكرتها عنه بغرض إعادة إنتاج شرعيتها، ولكون أن الدولة عندنا لم تكن نتيجة تطور اجتماعي كانت مهمة الدولة هنا أصعب في هذا المجال، كيف تقيم نشاط الدولة العراقية بمختلف حكوماتها وتوجهاتها في صناعة هوية وطنية عراقية؟

لا شك في أن تأسيس الدولة العراقي الحديث هو، كما أظن، لحظة التحديث الحقيقية، كانت وعودها كبيرة، ولقد حققت مكتسبات كثيرة، من بينها تحقق نوع من الاندماج الاجتماعي بين مكونات المجتمع العراقي، التي كانت قبل قيام الدولة في حالة شبه انعزال. ولكن للأسف كانت الدولة هي نفسها من نقض هذه الوعود بعد ذلك بسبب سياساتها اللاعقلانية. وصارت مطمحًا لمغامرين، العسكر على نحو الخصوص. كان أول انقلاب عسكري في العالم العربي عراقيًا، 1936. كما أن كوادر كثيرة من التي أسهمت في بناء الدولة ألقت على الدولة العراقية مهمات أوسع وأكبر من طاقاتها، بعضهم تصور أن العراق هو بروسيا العرب. باختصار وضعت الدولة العراقية على عاتقها منذ البداية خلق هوية عراقية، ولكنها ضلت طريقها، فكرست هويات فرعية، وبذرت هي نفسها بذور الانقسامات. وخالت أن القوة، وهي أحد وسائل شرعية الدولة، وحدها كافية لخلق دولة. والحال ليس كذلك، وأظن أن ذلك كله تفجر بعد 2003. ما ظهر بعد هذه السنة كان كامنًا. 

  • في كتابك الأيديولوجيا وتمثيلاتها الفلسفية في الفكر العراقي الحديث، اشتغلت – حسب وصفك - على أربع إجابات قدمت عن مسألة النظام السياسي - الاجتماعي في العراق على مدى مئة عام من الدولة في العراق، ثلاثة منها سرديات كبرى: القومية العربية، الماركسية، والإسلامية. وثمة رابعة لم تمتلك هذا التأثير والحركية، أي لم تشكل سردية كبرى ألا وهي الوطنية العراقية، هل يعود هذا الأمر لطبيعتها الواقعية بوصفها معنيةً بالإنسان العراقي بشكل واقعي وغيرها معني بمشاريع أضخم؟ كيف ترى هذه "الوطنية العراقية" الآن بعد أكثر من عقد من الحركة الاحتجاجية المدنية في العراق؟

السرديات الكبرى، أي النظريات الكبرى كما يعبر عنها بعضهم، هي من حيث المبدأ كل نظرية اجتماعية سياسية تعالج واقعًا أكبر وأوسع وأبعد من ممكناتها النظرية والواقعية. لذلك هي تسقط الجزئي لصالح الكلي، وهذا في الغالب يكون متخيلًا. يمكن أن أخمّن أن هذا هو مرجع تسميتها سرديات، فالخيال فيها أخصب من أن يرتبط بواقع معين. وهذه هي التوجهات الأيديولوجية التي عرفها العراق الحديث. سيعترض بعضهم ربما بالقول إن المسألة الاجتماعية كانت جزءًا من مشروعاتهم العملية والنظرية، ربما هذا صحيح ومهم، لكن الأصح والأهم أنهم هم وغيرهم كانت لهم مرجعياتهم الفكرية، والأهم السياسية، التي تقع أبعد وخارج الحدود التي تعالجها المسألة الاجتماعية. بل إن بعضهم، كانت قراراته الحزبية التنظيمية تأتي بأوامر خارجية، وهناك مواقف اتخذوها لأن المركز يأمر بذلك. وبات أبناء ذلك الزمان يعترفون اليوم بما كانوا عليه. قوميون يعملون أيديولوجيًا لصالح دولة غير العراق، ويساريون يتلقون الأوامر من مركز أيضًا. هل اختلف الحال اليوم؟ لا النسخة نفسها ولكن أفصح وأوضح!

لا شك في أن الاحتجاجات المدنية وطنيةٌ، من حيث شعاراتُها وتطلعاتُها ورهاناتُها وتضحياتُها. ولقد أسهمت إلى حد كبير في إعادة تخليق الخيال الاجتماعي الوطني. ولكن ذلك كله شيء، وتحويله إلى برنامج سياسي واقعي شيء آخر. هذا هو التحدي الكبير.

  •  في تاريخ تأسيس الدولة العراقية هناك جدل كبير، يذهب بعض الباحثين إلى اعتبار أن العراق دولة ومجتمع بمعناه وخارطته المعروفة اليوم ليس له وجود قبل دخول الاستعمار البريطاني، هل ثمة ملامح ثقافية عراقوية قبل عام 1921 وهل ثمة حدود ثقافية تاريخية للعراق قبل حدوده السياسية المعروفة اليوم؟

ليس ثمة حاجة لجدل، فالعراق كدولة، أو كما يسمى مثل غيره كدولة أمة، لم يتأسس إلاّ في العام 1921. هذه واقعة سياسية تاريخية. وصارت له خارطة سياسية فرضتها مفاوضات ومدافع، وله علم، أو أعلام! ونشيد وطني، أو أناشيد وطنية، ومؤسسات حكومية وما إلى ذلك، وجواز سفر، وكل ما يلزم في هذا السبيل.

ولكن العراق كفضاء حضاري وتاريخي ليس حديثًا ولا جديدًا، فهذا المكان الحضاري قديم، المزدان بذاكرة أقدم من ذاكرة الكتابة نفسها، أقول هذا المكان هو قديمٌ قِدمَ المكان إن جازت المبالغة المعبّرة. ونتيجة هذا التاريخ الطويل تشكلت ملامح شخصية عراقية، وإنجازات عراقية، لا تخطئها عين. فالمكان ينتج شخصيته. وتسهم ثقافة أو ثقافات في إنتاجها.

والسؤال هو: هل حدود هذا المكان تتطابق مع حدود الدولة العراقية الحديثة؟ بالتأكيد لا. فالعراق عَبر تاريخه الطويل يتوسع ويتقلص، شأنه شأن أغلب الأماكن الحضارية، ثمة جهات كثيرة كانت جزءًا من المكان العراقي، ولكنها اقتُطعت منه في ظروف كثيرة ولأسباب عديدة. مهما جرى، أو يجري، فالعراق موجود بشرًا وشخصيةً، أما كدولة بخارطة معينة وحدود جيوسياسية معينة، فهذا رهن متغيرات كثيرة تطرأ على أغلب الدول بما في ذلك الدول القوية أو حتى الاستعمارية.

بالتأكيد كانت هناك ثقافة في مدن العراق قبل العام 1921، شعرية، وأدبية، ودينية، وبدأت تتبلور ثقافةً ووعياً سياسياً في مطلع القرن العشرين، ولكنها تبقى من حيث مرجعياتها النظرية والواقعية مختلفة تماماً عما حصل بعد العام 1921. فهذا التاريخ فرض توجهات ومشكلات سياسية واجتماعية ثقافية ودولتية معينة جديدة، فعملية بناء دولة ومجتمع ليس مجرد كلام ومقالات، هي أصعب من النضال والتضحيات، وهي أصعب على النفوس عندما تستلم السلطة. وعلمنا زمننا الحاضر أن اليوتوبيا التي تسبق الانقلابات والثورات تتحول عند أصحابها حوضاً للفساد. على أي حال، كانت مشكلات ما بعد العام 1921 تلتمس حلولها من الدولة، وصار خيال الحلول يُضبط ويُنظَّم على وفق مشكلات الدولة الجديدة وتحدياتها، وهي جميعها تختلف بنيويًا وتاريخيًا عما كان قبل 1921.

  • في كتابك " المجتمع اللااجتماعي" وهو دراسة في أعمال الروائي العراقي فؤاد التكرلي، قد تتبعت معه موت فكرة المجتمع عن هذا الاجتماع الإنساني في العراق منذ تأسيس الدولة وإلى الآن، كيف عملت الحكومات على موت المجتمع العراقي؟
  •  يصف فؤاد التكرلي في إحدى اعماله هذا المجتمع بوصفه مجرد "فترة زمنية". برأيك ما هي العوامل التي لها رهانها في تحويل هذه الجماعات المتنافرة إلى مجتمع حديث وليس مجرد فترة زمنية نعيشها؟

جوابي عن هذين السؤالين معًا:

موضوع كتاب المجتمع اللااجتماعي محدد ودقيق وهو رؤية فؤاد التكرلي، كما في قصصه ورواياته، للمجتمع العراقي. هو إذن كتاب يتناول تمثيلات واقع في كتابات تخييلية. وبالتأكيد يصلح الأدب كوثيقة، من بين وثائق أخرى، لدراسة مجتمع. لم يكن هدفي، كما أظن، البحث في مقاصد التكرلي، (ولعلي وقعت في هذا المحظور من دون قصد) بل البحث في الموضوع الذي تتحدث عنه نصوصه. لم أصغ عنوان الكتاب تكلفاً، بل هو أشبه بعنوان رئيس التقت فيه مجموعة ثيمات.

يُقال إن الانسان كائن اجتماعي، وهذا صحيح، ولكن صحيح أيضًا أن فيه نزوعًا لكسر هذه الاجتماعية. هل ينطبق هذا على المجتمع؟ نعم، ولكن المسألة تتعدى الفرد، لتصبح في مستويات اجتماعية أعلى وأبعد. الدولة، أعني الدولة العقلانية بالمعنى الهيغلي، بالتأكيد تسهم في خلق مجتمع اجتماعي، والتطور الاجتماعي المتساوق، وطرق التربية والتعليم، والعدالة الاجتماعية، وإشاعة وتكريس قيم اجتماعية إنسانية، وغير ذلك، جميعها "قد" تسهم في خلق مجتمع يسوده تضامن اجتماعي.

ولكن تمثيلات التكرلي تأثرت أيضًا بتوجهاته الفكرية، وبتجارب شخصية مرّ بها لا أعرف كنهها، ولكنه يشير إليها في مواضع معينة، جميعها أسهمت في تشكيل تصوراته عن العائلة مثلاً، والزواج، والصداقة، وكثير من العلاقات الاجتماعية، وغير ذلك.

إذن الموضوع في أعمال التكرلي ليس متعلقًا بالدولة والسياسة مباشرة، إنما يتناول ما تتركه هذه من تأثيرات في المجتمع. فالدولة وحش كبير يندس حتى في العلاقات الاجتماعية (ورواياته تناولت ذلك). رواية الرجع البعيد واحدة من أبرز الأعمال الأدبية العراقية التي عرّت بأساليبها الخاصة الجريمة السياسية التي حصلت في 8 شباط بالانقلاب على عبد الكريم قاسم، رغم أن الرواية لم تكن أبدًا تشايع سياساته. أما المسرات والأوجاع فهي سخرية تاريخية من النظام السياسي العراقي ولكن من خلال العلاقات الاجتماعية. ثمة إشارات، وتلغيزات، وتوريات، وثمة أحيانًا كلام صريح وواضح. مصير توفيق في المسرات والأوجاع لم يسهم الأدب أو قراءاته للأدب في تقريره، بل النظام السياسي كان له الدور الأهم. وهكذا. وتبقى مجموعة ثيمات ثابتة في كل ما كتب رغم تغير وتنوع موضوعاتها.

 العدالة الاجتماعية، الحرية بكل أنواعها، القانون، هي السبل الأوكد لضمان استمرار دولة واندماج جماعاتها الاجتماعية واستمرارها. هذه ليست نتيجة تأملية، بل نتيجة خبرة متحصلة من وقائع تاريخ بلد ناف عمره السياسي على المائة عام.

  • الجامعة بشكل عام جزء من أدوات الهيمنة الأيديولوجية للدولة، ولكن ثمة معايير أكاديمية موضوعية تفرض نفسها دائمًا، كيف تصف مسار المؤسسة الأكاديمية في العراق وعلاقتها بالأيديولوجيا؟ هل فعلًا أن ثمة رثاثة تجاوزت كل أعراف المؤسسة في الجامعة العراقية خصوصًا ما بعد 2003 وهل يمكن إنقاذ هذه المؤسسة مما هي فيه؟

قبل العام 2003 كانت الجامعة في قبضة النظام السياسي الحاكم، قبضة بالمعنى الأيديولوجي والأمني. بعد ذلك ارتخت هذه القبضة، ولكن هذه لا يعني أن الجامعة استقلت، بل خضعت لآليات سلطوية جديدة ومختلفة، أبرزها المحاصصة السياسية.

لا إصلاح يمكن أن يحدث في المؤسسة الأكاديمية إلاّ بإصلاح يشمل جميع مناحي الحياة في العراق. إصلاح اقتصادي وسياسي شامل سيترك أثره بالتأكيد على الجامعة تلقائيًا، وسوف يسهم في إعادة تشكيل العلاقة بين حاجات المجتمع وأولويات الجامعة. مهمة الجامعة الأولى إنتاج المعرفة، النظرية والعملية والنقدية، والمهارات، وليس التوسع المفرط في تقديم الدرجات والشهادات العلمية، التي لا حاجة لها. ولكن إنتاج المهارات ليس من اختصاص الجامعة فقط، فثمة كوادر وسطية فنية هي التي تعوّل عليها الدول في بناء اقتصاداتها، وبسبب تعطل ميادين الاقتصاد كافة، فالعراق بلد مستهلك بكل معنى الكلمة، لم يعد من خيار اليوم أمام الطالب العراقي غير درب الجامعة، لأنه لا منفذ آخر لإمكان العيش هذا إن توفر هذا الإمكان.

سوق العمل في العراق اليوم لا يعرف غير تخصصات علمية، وصلت حد التخمة فضلاً عن تشوه كفاءاتها. هذا التوسع غير المسؤول في التعليم الخاص، التوسع غير المنضبط وغير النافع في الدراسات العليا، الدرجات العلمية القادمة من جامعات أجنبية وعربية، وغير ذلك كثير، كله يدمّر التعليم. التعليم اليوم باب للارتزاق فقط، وليس للتعلم.