29-سبتمبر-2019

عبد الوهاب الساعدي في معركة الموصل (Getty)

منذ فترة طولية انشغلنا أنا وأصدقائي بحوارات ساخنة تتعلق بالدفاع عن الشعب العراقي. وبالخصوص امتعاضنا الشديد عن تلك الشتائم الحقيرة التي يوصف بهذا هذا الشعب. ومنها: إنه "شعب جبان.. لا يطالب بحقوقه.. منافق.." الخ.. لقد تم "إشباع" الشعب العراقي من حصة اللعن والتحقير والشتائم من قبل الحالمين. وبالطبع لا أقصد "كبار" المثقفين، إذ لا توجد لديهم نصوص رسمية، سوى ما ينقله بعض الأصدقاء من روايات شفاهية حول تجرأ البعض منهم من الانتقاص من العراقيين في حواراتهم الخاصة. كانت ردودنا إلى روّاد المقاهي، و"التنويريين"، وبعض "المدنيين" تتمحور حول هذه الحقيقة، إن الشعب العراقي يتصرف على هذا النحو كونه يفتقر للنموذج، ولو وجد النموذج الوطني لالتفوا حوله. والغريب من هؤلاء "الرواد" إنهم يختزلون عقودًا طويلة من الإقصاء والتهميش والقتل التشريد ليقفزوا فورًا إلى النتائج ويعلنوا "دونية" الشعب العراقي.

 نشهد بروز تيار وطني في طور التشكّل، يعطينا رسالة مفادها، إن الوطنية لا تعبر الحدود، والمعادل الوطني موجود، فلا نحتاج إلى استيراد "رموز" من خارج الحدود

 لقد التفت الجماهير في التسعينيات حول محمد محمد صادق الصدر، لا لكونه رجل دين فحسب، بل لتقربه من الناس، والدليل أن الكثير من هذه الجماهير كانت بعيدة كل البعد عن الدين والتدين. المعادلة المخيفة التي حركت تلك الجماهير آنذاك، هي ظهور من يتحدى الطاغية بكل هذه الصلابة ورباطة الجأش، فمن هذه الناحية لم تعد هوية القائد تشكّل فارقًا لديهم؛ سواء كان قائدًا دينيًا أم دنيويًا، من اليمين أم اليسار. إذ لم تكن تلك المفاهيم سائدة في الساحة الثقافية العراقية - ولا زالت- في ظل سلطة دموية مرعبة كسلطة صدام حسين التي كانت تحكم بالحديد والنار. خلاصة القول: إن الناس كانت تبحث عن رمز وطني أيًا كانت توجهاته الأيديولوجية، مع عدم تغييب السمة الغالبة للتوجهات الدينية للجماهير العراقية في ذلك الوقت.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا تم "إبعاد" عبد الوهاب الساعدي عن قيادة قوات مكافحة الإرهاب العراقية؟

فلندخل في السؤال المركزي لهذه المقالة: ما تفسير التنديدات والتذمر الذي أبداه العراقيون حول القرار المجحف بإبعاد الفريق الركن عن موقعه الحيوي كقائد عسكري ميداني بارع إلى مكان لا يليق بموهبته العسكرية المشهودة وهي أمرة الدفاع؟ سؤال آخر: لماذا أبدى الرأي العام تضامنًا واسع النطاق مع هذا القائد الوطني لشجاع؟ ربما لأنهم أدركوا مرّة أخرى إنهم سيخسرون نموذجًا يعز بديله إلا بشق الأنفس!. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إننا نشهد بروز تيار وطني في طور التشكّل، يعطينا رسالة مفادها، إن الوطنية لا تعبر الحدود!، والمعادل الوطني موجود، فلا نحتاج إلى استيراد "رموز" من خارج الحدود. وقد أدرك هذا التيار جيدًا أن ظهور رمز وطني لا يساوم على قدسية الوطن سيتعرض للتهميش والإقصاء، وهذا ما حصل للفريق الركن عبد الوهاب الساعدي. ومع أن الرجل خسر المعركة مع الأنداد الشرسين، إلا أنه ربح العراقيين وكسب جمهورًا وطنيًا عثر على نموذجه الوطني بشخص الساعدي.

بالطبع، لن تنتهي معركة التيار الوطني مع الجاليات الأجنبية في العراق. لكن ليس هنا جوهر القضية برأيي، وإنما تنحصر بموضوع هذه المقالة: عن الجدل، الذي على ما يبدو كنا صادقين بخصوصه، أنه متى ما وجدت الناس النموذج ستغادر دونيتها وعدميتها. ولكي لا نبالغ ونذهب بعيدًا، ليس المقصود أن التفاف الناس وتعاطفهم مع الساعدي سيعالج تلك القضية العويصة، لكنه علامة بارزة من أن فقدان النموذج أحد أسباب الانحطاط السياسي والاجتماعي؛ فستكون المعادلة كالآتي، إذا غاب النموذج حلّ الانحطاط، وبعكسه يسترد الناس ثقتهم المهزوزة بتاريخهم الوطني وبنخبهم السياسية، لكن الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي كان يمثل بصيصًا من هذا الأمل الوطني الذي افتقده الجمهور طويًلًا، جمهور يبحث عن ماركة وطنية  غير طائفية وليست عابرة للحدود.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مرثية العراق الحزينة.. هويتنا الضائعة

سؤال الهوية الوطنية في حمّى "التحاصص" الطائفي