17-يوليو-2019

يخاف الاستبداد حتى من أحلام الناس، فيقتلها (فرانثيسكو جويا)

بصريح العبارة: إن الناس حينما تفقد الأمل وينخرها الاستبداد تغطس في عمق الهامش، إن كان للهامش عمق!، وتبتعد عن قضاياها الرئيسية، فلا يبقى لها سوى اليومي والاستهلاكي والرتيب والممل. فتعمد إلى تغليف معظم كلامها بغلاف السياسة. وتغدو هذه الأخيرة الخبز اليومي لأكثر فئات المجتمع المسحوقة. فليس مصادفة أن تتكاثر لدينا التصورات الحالمة والشعور بالدونية والميل إلى جلد الذات بقسوة.

الكلام عن السياسة في مجتمعنا لا ينطلق من وعي بحقيقة التناقضات التي نعيشها ومحاولة إيجاد الحلول، بل هي نوع من الهروب وتعويض عن الخيبات

 إنها الوظيفة الجوهرية لسلطة الاستبداد، أن تجعلك تحلم، لكن شريطة أن تكون في طرف الهامش، إذ يحرم عليك الحلم في المركز لكي تحقق الحلم. ومن هنا، وبمرور الزمن، تظهر لدينا أجيال تميل إلى الهروب من الواقع عبر الكلام عن السياسة!. والكلام عن السياسة هنا لا ينطلق من وعي بحقيقة التناقضات التي نعيشها ومحاولة إيجاد الحلول، بل هي نوع من الهروب وتعويض عن الخيبات. إن الكلام عن السياسة في مثل هذه الحالة هي أشبه بغمغمات المغشي عليه من شدة الألم.

اقرأ/ي أيضًا: نقد المجتمع ليس حقك أيها السياسي الفاشل!

من خلال مشاهداتي اليومية أصل إلى قناعة، إن الكلام في السياسة يأخذ حيزًا كبيرًا في الحوارات اليومية ويأتي في المرتبة الأولى في سلّم أولوياتنا الحوارية. ولا ينحصر الموضوع في نقل الخبر والمعلومة، وإنما يتعداه إلى التحليل والمقارنة ووضع الحلول!. غير أن المتتبع لهذه الحوارات الساخنة سيصل لنتيجة مفادها: إن السياسة هي الحقل الأكثر غموضًا وتشويشًا وثرثرة في ذهنية المحاورين.

 رغم الحيز الكبير الذي يحتله هذا الحقل، لكنه يغدو مجالًا واسعًا للثرثرة اليومية والأساطير المتعددة وغلبة الحس الشعبوي على مجمل مواضيعه. ومن هذه الثرثرة التي لا تنتهي على سبيل المثال؛ إن إيران لا تريد الخير للعراق، كما لو أن إيران تمنعها القيم الأخلاقية لدعم الفاسدين في نظام المحاصصة. وأن صدام كان الشخص "السبع" والملائم للعراقيين، وأن الحل الوحيد للعراقيين هو باستئناف ثقافة "السحل" في الشوارع. ولهذه الثقافة ذاكرة دافئة في وجدان العراقيين لم يغادروها حتى الآن، فهم يعوضون الخسران المبين والصدمة الماحقة التي تلقوها من أحزاب السلطة، كما لو أنهم يعرضون أنفسهم لعقوبة رمزية!. إنها عقوبة جماعية من نوع آخر.

كنت أشعر بالملل وأنا استمع "للبحوث الإستراتيجية" لسواق الأجرة وهم يخططون ويجترحون الحلول "العبقرية". لكن هذه الأيام حينما اضطر لتأجير التاكسي، فأول مهمة " تكتيكية" أقوم بها، هي تحريك الكرسي إلى الخلف لأنعم بغفوة مريحة بعيدًا عن "استراتيجيات" السواق، لأنني أعلم المحفوظة التي هي عبارة عن احتفالية صغيرة لجلد الذات.

معلوم أن الشعور باللا جدوى وانعدام المعنى يدفع الآخرين للهذيان بلا عمل، والميل إلى الأحلام بعد أن أفلسوا من هذا الواقع المتردي. إنه عزاء من نوع آخر؛ شكله التعبيري خطاب سياسي، ومحتواه رثاء لأرواحهم المعذبة.

يخبرني أحد الأصدقاء أن الصينيين وصلوا لدرجة كراهية أنفسهم وهم يتوسدون الشوارع نتيجة  انقسامهم إلى شماليين وجنوبيين، وضياعهم وإدمانهم على الهيروين. ويماثلهم بالشعور الشعب الهندي سابقًا، ذلك أن شاعر الهند الكبير طاغور تمنى لو ترسل الآلهة جحيمها على الهند وتحرقها عن بكرة أبيها.

الشعور باللا جدوى وانعدام المعنى يدفع الآخرين لجلد الذات. إنه عزاء من نوع آخر؛ شكله التعبيري خطاب سياسي، ومحتواه رثاء لأرواحهم المعذبة

ويخبرنا تاريخ الأوروبيين أنهم وصلوا إلى مفترق طرق وصرخوا: أين الله من هذه الفظاعات.. لكن دائمًا ثمة أمل وشيك لا بد أن يحدث حينما يعتصر المجتمع روحه المعذبة، فيظهر أسوأ ما فيه من جهة، وأجمل ما فيه من جهة أخرى.. بين الأسوأ والأجمل ثمة خلاصة تتبدى كما لو أنها كرة ثلج تتدحرج من أعلى قمة جبل فلا يبقى الحال كما هو عليه.

اقرأ/ي أيضًا: المجتمع هو السبب.. النقد لإنقاذ فشل السلطة!

هذه قصة نهوض المجتمعات حينما تجعل من آلامها سمادًا لزرعها القادم، وتجعل من ذاكرتها جسرًا تعبر به من خلاله إلى الضفة الأخرى، بمعنى أن تتحول ذاكرتها إلى عبرة تستفيد منها مستقبلًا. ونعني بالعبرة هنا، إن الشعوب المتقاتلة تستحضر تاريخها الدموي ليتحول إلى خطوة مهمة للسلام لاحقًا.. الوعي بهذه التناقضات المدمرة يحيلها إلى لحظة إدراك عظيمة: إدراك الضرورة، إدراك الحرية، وإلا ستفضي كل مخاضاتنا إلى ولادات مشوهة. وحده الوعي بهذه المخاضات من يقلب المعادلة، وهذه الأخيرة تحتاج إلى قوى اجتماعية واعية بعمق حركة الواقع.

بعد أن نجحت الديمقراطية في اليابان والهند على سبيل المثال، ظلت هذه البقعة العربية تحترق بنفطها وعقائدها. وقد أمّنت الأنظمة المستبدة "الاستقرار" في هذه المنطقة. الاستقرار يعني هنا، أن تلجم شعوبها من أي فسحة للحياة، والمهيمن الغربي يشجع ديكتاتوريات مستقرة مفضلًا إياها على ديمقراطيات صاعدة ، ذلك إن العرب في ضمير الغرب كائنات محتقرة وأمة منقرضة بتعبير أدونيس.

هكذا صورونا وصدقنا هذه الصورة، فمن الصعب على الأجيال الجديدة الاعتراف بذاتها وتاريخها وهويتها، ذلك أن الناس لا تؤمن بنماذج تجريدية،  وأوطان مفككة ونخب عميلة ومؤسسات لا توجد سوى في الأحلام. لذلك لا تبقى سوى العدمية واللاجدوى وتتحول إلى سلوة عزاء يعالج بها العربي روحه المستلبة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

شرط الدولة المفقود عراقيًا

محنة الدولة العراقية من الموظف إلى رئيس الوزراء