11-يوليو-2019

في أكثر الأحيان يبدو العجز واضحًا على مسارات النظام السياسي في العراق.. إنه نظام غير منتج (تويتر)

في عراق ما بعد 2003، أحصى العراقيون عددًا من العبارات الجاهزة التي كانت تطلق من قبل سياسيين وحفظوها لاستخدامها بالمزاح والترفيه عن النفس في مجالسهم، كانت إحدى هذه العبارات هي "العودة إلى المربع الأول"، وبقدر ما تم اجترار هذه العبارة للتعبير عن قلق العودة هذا، إلا أن كل ما حدث خلال السنوات الست عشرة الماضية، يشير إلى مدى الحاجة الكبيرة لـ"العودة إلى المربع الأول".

 العراقيون يبدون غضبهم وامتعاضهم سنويًا من الوزارات لا سيما الخدمية منها، لكن بعد استيزار عدد من "الكفاءات" للوزارات لاحظ الجميع أن شيئًا لم يتغير 

والسبب وراء ذلك هو عملية مزج كيانين لا يمتزجان، فالنظام الجديد أزال من القديم العديد من الركائز، وعلى رأسها الحزب الأوحد والقبضة الحديدية للأمن على الشعب، ومحاصرة أصحاب الرأي وكتم أصواتهم، وأضافوا له تعددية الأحزاب والديمقراطية التوافقية والبرلمان وحرية التعبير عن الرأي، لكن الاستبدال لم يكن مطلقًا فقد تم الحفاظ على العديد من السياقات القديمة، ولا يخفى على أي عراقي وجود قوانين إدارية وجنائية سائرة الآن تدعى بقوانين "مجلس قيادة الثورة المنحل".

اقرأ/ي أيضًا: شرط الدولة المفقود عراقيًا

وبعد مزج المختلفين هدم أحدهما الآخر، فتهدمت الدولة بالمعنى الهائل والكامل للهدم، ورغم اندلاع الحرب الأهلية عام 2006، لكن ذلك الهدم لم يكن يظهر بوضوح حتى السنوات القليلة الماضية، وتحديدًا بعد محاولة إصلاح الدولة التي أراد إطلاقها رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، حين بان للجميع أن الفساد الذي تريد الدولة محاربته، لا يتعلق ببعض الرؤوس الكبيرة الراسخة في الصف الأول من السلطة، بل تنزل في التراتب الوظيفي وصولًا إلى أصغر الموظفين في الدوائر الحكومية، حيث يأخذ الفساد أشكالًا متعددة، أقلها خطورة هو الفساد المالي، وأشدها هو العجز الانتاجي للمؤسسة، وغياب ارتباطها بالمواطن وباقي المؤسسات، ما يجعل كل مؤسسة حكومية أشبه بكيان يطفو وحيدًا في فضاء النظام، يستهلك من الموازنة السنوية ولا يضيف لمنظومة الدولة شيء.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكثير من العراقيين سواء كانوا نخبة أو من عامة الناس، يبدون غضبهم وامتعاضهم سنويًا من عدد من الوزارات لا سيما الخدمية منها، موجهين أصابع الاتهام إلى الوزراء والمدراء العامين، والذين عادة ما يكون مناسبين للاتهام فعلاً، لكن بعد استيزار عدد من "الكفاءات" لاحظ الجميع أن شيئًا لم يتغير.

إن وجود الدولة يرتبط بشكل أساسي بالشعور الفردي للموظف الحكومي، حيث تترتب عليه مسؤولية تصغر وتكبر حسب مكانته داخلها، فإن غاب تحاصره القوانين التي تجبره على أداء واجباته. والموظف هنا كلمة تجمع مساعد ملاحظ من الدرجة السابعة أو الثامنة على السلم الوظيفي، حتى رئيس الوزراء. أما بقية الشعب خارج نظام العمل في مؤسسات الدولة فأدوارهم تتفاوت بالتأثير على هذه المؤسسات دون وجود مسؤوليات رسمية على عاتقهم، ورغم انعدام المسؤوليات أثبتت العديد من التجارب أن انتاجية المؤسسات غير الحكومية تفوق بأضعاف مضاعفة ما تنتجه المؤسسة الحكومية.

ومن المسؤوليات المفترضة على مؤسسات الدولة، إقامة علاقات تكامل ومشاركة وإنتاج واستهلاك بين الموظف وغير الموظف، إذ أن غياب هذه العلاقة ستعرض المؤسسات لخطر تقاطع المصالح بين هذين الطرفين، ما يؤدي بالنتيجة إلى معادلات صفرية أو شبه صفرية. ومن الأمثلة القائمة على ذلك، أن محطات الكهرباء الحكومية، بدل أن تعقد شراكة رسمية مع المولدات الأهلية لتغطية ساعات القطع الرسمي بالتشغيل الأهلي وتوفير 24 ساعة من الكهرباء المستمرة بمقابل مالي معقول، واستحصال الرضا الشعبي، فإن العلاقات الرسمية غابت وأنشأ موظفون من الدرجات الدنيا علاقات غير رسمية مع أصحاب المولدات، لتشغيل الكهرباء خلال ساعات التشغيل الأهلية، بمقابل مالي يدفعه صاحب المولدة إلى المشغل في المحطة، ما يتسبب بغضب المواطن وسخطه، وفساد مشترك بين الموظف وغير الموظف. ومن الطريف بهذا الخصوص، رغم تساوي درجة الفساد بين المشغل الأهلي وموظف المحطة الحكومية، إلا أن المواطن يلقي اللوم على الحكومي دون نظيره، كون الأول يحمل مسؤولية خدمية يتقاضى مقابلها مرتبًا عكس الآخر الذي يدير مشروعًا ربحيًا خاصًا، وهذه مرحلة وعي وصلها المواطن بالتجربة لا بالتعليم والتثقيف.

وإن كان المثال السابق ليس ذو أثر كبير على هيكل الدولة ومؤسساتها، فإن غياب العلاقة بين هذه المؤسسات من الجانب الأمني والسياسي مع المؤسسات غير الحكومية الأمنية والسياسية، صنعت عددًا من السلطات الرديفة والجانبية، تمكنت عن طريق الانتخابات بالتحكم بالمؤسسات وتسييرها وفق المصالح الفئوية، ما قاد إلى كوارث تتمثل باستخدام القوة العلنية ضد المواطنين خارج السياقات القانونية وإعلان التمرد الصريح لتوجه النظام السياسي المتحدث بلسان الدولة، لا بوصفه معارضًا للسلطة بل بوصفه سلطة أعلى من السلطة، كما حصل بين رئاسة الوزراء وهيئة الحشد الشعبي التابعة له على الورق.

وفي العودة إلى المزج الخاطئ بين النظام السابق والحالي، فأحد أسباب عدم صحة هذا المزج هو اختلاف الإيقاع، فالنظام الوظيفي السابق، بني على أساس الحكومة الخالدة غير القابلة للاستبدال، وهو عكس ما يجري حاليًا بوجود عمر افتراضي للحكومات قدره 4 سنوات فقط، فلم يعد الموظف الروتيني يستطيع مجاراة البرامج الوزارية والحكومية المستعجلة التي تستهدف إنجاز عدد من الأهداف باختلاف أهميتها ومدى كمية الفساد الواردة فيها، لكن آلية التوظيف والترفيع الوظيفي لا تزال كما السابق، وتعتمد معيار الاختصاص الجامعي في التوظيف دون الحاجة إلى الخبرة (التي كانت غير ممكنة في النظام السابق لعدم وجود مؤسسات أهلية تُكتسب الخبرة من خلالها)، فضلًا عن اعتماد سنين الخدمة كمعيار للترفيع، بغض النظر عن المنجز.

 العودة إلى المربع الأول ربما أصبحت حاجة ملحة لوضع الدولة العراقية على المسار الصحيح، أو منحها إيقاع عمل منتظم على الأقل، وذلك بتجريد كل أصحاب السلطة من سلطتهم

 إن العودة إلى المربع الأول ربما أصبحت حاجة ملحة لوضع الدولة العراقية على المسار الصحيح، أو منحها إيقاع عمل منتظم على الأقل، وذلك بتجريد كل أصحاب السلطة من سلطتهم، بدءًا من سلطة الموظف المتمثلة بحصانة بقائه في درجته الوظيفية كونه "على ملاك الدولة الدائم"، وصولًا إلى الأحزاب السياسية والجماعات الدينية التي تمكنت من امتلاك أدوات الحصانة المتمثلة بالجمهور السياسي والقوة المسلحة والدولة العميقة المزروعة داخل المؤسسة، وإعادة بناء سلطة متوازنة تحقق التكامل بين المفيد والمستفيد والمنتج والمستهلك والتابع والمتبوع، حينها ستكون الهيمنة الخارجية وغياب الاستقلال وطائفية الاحزاب ذات أثر على ما هو سياسي فقط، وتكون الدولة التي تجبي الضرائب وتشغل الكهرباء وتعالج المرضى وتعلم الطلبة وتوزع الماء الصالح في معزل عن هذه الصراعات.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

سوق "المحاصصة الأمريكية" في بلادنا

ماذا فعل "شيعة السلطة"؟