لا يُشترط فيمن يذبح مدينةً مقدسةً أن لا يؤمن بقدسيتها، يكفي أن يكون وغدًا، أعني، لا يجب أن يكون بهوية نختلف عنها، أو من أي منطقة تختلف عنا ليريق الدماء في مدينة نعتقد أنها مقدسة. ليس للإجرام هوية، وإن كان المرءُ وغدًا فلا أهمية لجذوره العرقية أو المذهبية، ذلك أن الأوغاد القتلة لا يؤمنون بقدسية قُدس الأقداس.. الدم.
تم تصميم نظام الحكم لما بعد صدام حسين بشكل طائفي يستنهض الغبن التاريخي، ولكنه تصميم لوني فقط
في خضم حراكهم من أجل بناء رفض اجتماعي لنظام صدام حسين، استغل معارضوه صور انتهاك مراقد الأئمة في النجف وكربلاء إبان انتفاضة عام 1991 لكي تصبح أيقونة صراعهم معه، لتتمحور حول هذه القضية تحديدًا كل أدلة إدانتهم له تقريبًا، ولماذا تحتاج دليلًا أقوى؟ ما أسهل أن تقول: لقد قصف مرقدي الحسين والعباس ليقشعر بدن السائل عن إجرام صدام حسين!
- ألهذا الحد هو مجرم؟ يُجيبك
- بل ومرقدَ أمير المؤمنين!
- لعنه الله وقصف عمره!
ثم ينتهي النقاش إلى هذا الحد! ما أسهلها من طريقةٍ وما أقصره من طريق؟ ثم تهمُّ أن تنهض من مقعدك فيستوقفك السائل:
- مهلًا توقف، من هؤلاء الظاهرون في الصورة؟ وكيف وافقوا على تنفيذ أوامره؟ إنهم يبتسمون فلا مجال للقول بإنهم مُـجبرون، ولا يبدو أن ثمة فرقة إعدام كانت بانتظارهم، ما هي بقية القصة؟
وهنا تشعر بأنك تحتاج إلى سلاحك الثاني: الطائفة!
- كلهم من تكريت والأنبار وصلاح الدين والموصل وديالى!
- كلهم؟
- "مع بعض المرتزقة من بغداد والجنوب" ثم تبلع ريقك لتسارع وتضيف: "ولكنهم جميعًا بعثيون".
- "آه هكذا إذًا، الأوغاد الأنجاس أبناء يزيد ومعاوية"!
تطرق ببصرك تأثُرًا وتبتسم بقلبك لأنك كسبت طائفيًا آخر، هاه، ما أجمل الحياة!
ها قد أخرجنا فصائل الأوغاد الأخرى من دائرة الاستهداف واحتفظنا بالوغد الآخر طائفيًا أو عرقيًا، ومن الآن وصاعدًا، سيحافظ كلٌ على أوغاده كما يحافظ أحدنا على مدخراته، وربما احتاج إلى صناعة المزيد منهم، فأيام الحرب لا تبدو بعيدةً مع استمرار العزف على هذا الطنبور، ولكن لا بأس بالحرب الأهلية إذا أوصلتنا إلى السلطة.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا فعل "شيعة السلطة"؟
خلال العقد الأخير من الألفية الماضية، توقف حزب الدعوة وباقي أحزاب المعارضة الإسلامية تقريبًا عن محاولاتهم للبحث عن (فلسفتهم هم) و (اقتصادهم هم) وحملات البحث واسعة النطاق عن مكتسبات واختراعات العصر الحديث في كتاب الله وسنة نبيه، وتوقف غير الإسلاميين عن الكتابة والتأليف في الحقوق المدنية والبناء الديمقراطي لنظام الحكم، فلم يكتبوا ورقةً واحدة في الاقتصاد والمال والخدمات، عدا أبناء الحزب الشيوعي، كونهم كانوا معنيين بالقضية بدافع خارجي هو انهيار المعسكر الاشتراكي، واستسلم بعضهم إلى فكرة أن يكون عراق ما بعد صدام رأسماليًا ليبراليًا. ولكن أطراف المعارضة اجتمعت على تجنب الحديث عن تردي الخدمات كونهم كانوا يدفعون باتجاه انهيارها، أي استمرار الحصار الاقتصادي، وفي المقابل صبوا كل جهودهم على تفريع القضية الطائفية التي سقطت عليهم كالهدية من السماء فجأةً مع الصواريخ التي سقطت على النجف وكربلاء، فإذا بك تسمع:
"الشيعة أقلية في القوات المسلحة، الوزراء ووكلاؤهم والمدراء العامون كلهم من محافظات معينة، وزارة التعليم العالي".. وهلم جرا.
بعض الليبراليين والقوميين بدأوا يتذكرون جذورهم الطائفية وألفوا كتبًا في (الشيعة والدولة القومية) وغيرها، ثم تكرسَ هذا الخطاب بشكل أكبر حينما تم تعقّب مراحل الحكم السابقة ومحاكمتها إلى المعيار ذاته، الطائفية، واحزروا ما الذي حدث؟ لقد نجحت، إنها تنجح في كل مرة فلماذا نتخلى عن الطائفية إذًا؟
هكذا توصل الناس وقتها وبعضهم حتى الآن إلى اعتقاد مفاده أن السنة حكموا الشيعة لمدة 1400 عام! هكذا تم تصميم نظام الحكم لما بعد صدام حسين عاجلًا أم آجلًا، ولكنه تصميم لوني فقط، اختار ساسة العراق لون السيارة التي سيشترونها ويقودونها بغض النظر عن بقية المواصفات.
لدى أول دورة مفتاحٍ (نگرة سلف كما نسميها) بعد (2003)، تبين أن المركبة لا تعمل، فاحتاجت (المركبة ــ النظام) إلى دفعة الجيش الأمريكي، فسارت ببطء ثم تباطأت فزاد المحرك الخارجي من قوة دفعه، ليتبين أن كل أجزائها معطوبةٌ أو ربما مفقودة، إذ ظن الكثير من قادة العراق الجدد أن اللون وحده هو ما يجعل السيارة تسير، نعم ولا يزال الكثير يشاطرهم الرأي.
اشتعلت حرب الألوان في أروقة القرار السياسي العراقي مباشرة بعد سقوط النظام أو إبانه حتى، فخيمة الناصرية التي سبقتها مؤتمرات المعارضة في لندن وصلاح الدين أكدت الألوان الجديدة للعراق، بينما كان الأحمر القاني هو اللون الحقيقي للشارع المصطبغ بالدم، وعجلات السيارة كانت تدور ولكن ببطءٍ شديدٍ فاضح، فأرجع الساسة البطء إلى صغر المساحة اللونية لكل منهم، فالألوان الأخرى (تضع العصي بالعجلات)، لكنهم ـ مع الأسف الشديد ـ ملزمون بالتعددية، واشتعلت حرب الألوان في أعلى الهرم صابغة الشارع بالأحمر القاني، وتغير توزيع الألوان على سطح المركبة ولكنها لا زالت تتباطأ وتتباطأ حتى توقفت بعد رحيل المحرك الحقيقي، وهنا تدخلت قوى أخرى إقليمية لتحريك المركبة، ولكن عن طريق سحبها، وبدأ ركاب السيارة يصحون على حقيقةٍ مفزعة مفادها أن سيارتهم الجديدة ما هي إلا جثة، و(باكَة باكَة الصوت من يصحى إعله ظالم) كما قال الشاعر الخالد، عريان السيد خلف، تجمعت الباقات المناهضة لهذا النظام بعد مخاضات طويلةٍ لتشكل لونًا جديدًا غير معهود، أبيضَ صافيًا تذوب فيه كل ألوان الطيف، لكن لا تظهر عليه، وتطالب بسيارة جديدة ذات محرك (عقد اجتماعي) ووقود (حقوق مدنية) وكوابح (سلطة قانون) جديدة.
مطالب انتفاضة تشرين أرجعت العراق إلى عصر ما قبل الألوان أطلقها جيل يرى كل السلطات غير ذات الشرعية بلونٍ واحد
مطالب أرجعت العراق الى عصر ما قبل الألوان أطلقها جيل يرى كل السلطات غير ذات الشرعية بلونٍ واحد، فقرن النظام الحالي بنظام صدام دون أن يدركه حتى، ولكن فقط من خلال آثاره على الأجيال التي عايشته، ولكن النظام السياسي الذي رفض بشدة هذه المقارنة، أكدها بما لا مزيد عليه خلال قمعه للاحتجاجات.
اقرأ/ي أيضًا: الرهان المستحيل
وأمام جيل لا يفهم ولا يريد أن يفهم نظام الألوان فضلًا عن أن يخضع له، خسر النظام السياسي كل دفاعاته التي منحته الحياة طيلة سبع عشرة سنةً عجفاء، (نريد وطنًا) هتف الناس غاضبين، بينما اعتبرت السلطة هذه المطالبة جريمة نكراء، وهنا صارت الحاجة ملحة إلى الأصدقاء القدامى (الأوغاد) عادوا مجددًا إلى المشهد ليباشروا عملهم الطبيعي، قتل كل صوتٍ أو صاحب صوت، وكلٌ من موقعهِ، القاتل المسلح والقاتل الإعلامي والقاتل الموظف المدني وهكذا، وهذه المرة كان الأوغاد عراةً عن الألوان إلا لونهم الأصلي والحقيقي.
لم يحتج أقطاب النظام السياسي "الشيعي" إلى تبديل مذاهبهم لكي يهتكوا كل حرمات التشيع ويتنكروا لمقدساته، النجف، كربلاء، بغداد أم الناصرية، لا فرق، الذبح واحد والرهان على الزمن لنسيان ما لا يسع الذهنَ نسيانه.
هل تتذكرون الآن ما فعله صدام حسين في الواحد وتسعين؟
اقرأ/ي أيضًا:
إحاطة أممية مخضبة بدماء 20 ألف متظاهر.. العالم ينصت إلى صوت شبان العراق