10-مارس-2019

أحد محلات الأعشاب غرب العاصمة (ARABIC.NEWS)

في المجتمع العراقي، لا سيما خارج المدن، يحظى الأطباء بمكانة كبيرة تمنع الناس من مخاطبتهم- ولو كانوا من الأقارب أو الأصدقاء- بأسمائهم الأولى دون لفظ كلمة "دكتور" قبل ذلك. ويمكن فهم هذا التبجيل والاحترام لارتباط مهنة الطبيب بديمومة الحياة ودعم غريزة الإنسان الأقدم، غريزة البقاء.

تكمن خطورة المداواة بالأعشاب، في عدم وجود نشرة دوائية بالأعراض الجانبية للعشبة الممنوحة من قبل المُعشّب

لكن هذه المكانة الاجتماعية اصطدمت خلال السنوات الأخيرة بصورة سيئة مرسومة للطبيب، تتمثل في الإنسان الجشع والمادي، وذلك بسبب ظواهر متعددة أسفر عنها الواقع الصحي لعراق ما بعد الغزو الأمريكي عام 2003 في المستشفيات الحكومية والعيادات الخاصة.

اقرأ/ي أيضًا: القطاع العام في العراق.. الموت مجانًا في مدينة الطب!

وأدى تراجع العلاقة بين الأطباء والمرضى إلى البحث عن البدائل العلاجية المتمثلة بطب الأعشاب، لأسباب ترتبط غالبًا بالجانب المادي والثقافي.

الوجه المظلم لطب الأعشاب

تكمن خطورة المداواة بالأعشاب أو ما يعرف بـ"الطب البديل"، في عدم وجود نشرة دوائية بالأعراض الجانبية للعشبة الممنوحة من قبل المُعشّب، وهو الأمر الذي يعتقد معظم مستخدمي الأعشاب للاستطباب أنه غير موجود، على أساس أن الأعراض الجانبية توجد فقط في الأدوية "الكيميائية" ولا يمكن تواجدها في النباتات الطبيعية، ويرجع ذلك الفهم إلى أسباب متعلقة بالموروث الشعبي والديني.

وتكشف الطبيبة النسائية فيّ السياب في حديث لـ"ألترا عراق"، عن آثار خطيرة لعدد من النباتات والأعشاب إذا استخدمت بطريقة خاطئة، قائلة إن "الأعشاب من الممكن جدًا أن تتضارب و تؤثر على عمل الأدوية أو تتعارض مع حالات مرضية معينة.

مثلًا عشبة الميرمية التي تحتوي على شكل من أشكال هرمون الإستروجين، أو ما يعرف بـ"هرمون الأنوثة" كما هو الحال في فول الصويا وحليب الصويا؛ وهذه الأعشاب قد تُعقد اضطرابات الدورة الشهرية لدى المرأة الشابة، ولكنها في ذات الوقت ممكن أن تساعد النساء بعد سن اليأس أو فترة انقطاع الدورة الشهرية؛ كما أن هناك بحوثًا حول الزنجبيل وفوائده للغثيان والتقيؤ وقد أُدْخِلت بشكل رسمي في أدوية الوحام وعلاج دوار البحر أو السفر".

وتضيف أن "بعض الأعشاب ترفع الضغط الشرياني وتسرع دقات القلب؛ وبعضها يسبب الإسهال، ولذلك فإن الاستخدام غير المسبوق بمعلومات حقيقية عن العشبة غير صحيح، وقد يمثل خطورة دون استشارة طبية".

تكمن خطورة المداواة بالأعشاب في عدم وجود نشرة بالأعراض الجانبية للعشبة المتناولة

من جانبها تلفت الطبيبة المقيمة في مستشفى الكندي التعليمية في بغداد آمنة الصوفي لـ"ألترا عراق"، إلى أن "الأطفال الذين يعطى لهم عشبة السكوة المتعارف عليها شعبيًا، يصاب عدد كبير منهم بحالة تسمم لكثرتها، أطلقنا عليها مصطلح (segwa poisoning syndrome) وتؤدي حالات التسمم هذه إلى الجفاف والموت أحيانًا".

فيما يشير الطالب في كلية الطب، صادق مجبل، إلى طرق إسعافات أولية خطيرة مرت عليه خلال تطبيقه الدراسي في المستشفى، قائلًا: "نشاهد حالات معالجة الحروق بطرق خطيرة ومدمرة، بسبب بعض الذين يستخدمون الأعشاب واتباع طرق غير صحيحة في الإسعافات الأولية".

الواقع الطبي في العراق

لا يعتبر الطب البديل والمداواة بالأعشاب ظاهرة جديدة، لكنه عادة ما كان ينحصر في المناطق النائية عن المدن بسبب تدني مستوى الوعي في المجتمعات القروية في الأقضية والضواحي، وبسبب عدم وجود مستشفيات كبيرة وفعّالة في هذه المناطق.

إلا أن العلاقة بين الطبيب والمريض بدأت تتدهور تدريجيًا مع شيوع عدد من الظواهر مثل تشفير الوصفة الطبية التي يكتبها الطبيب لتفك رموزها من قبل صيدلية معينة تضع أسعار الأدوية كما يحلو لها دون مراعاة المستوى المادي للمريض.

تتحدث آمنة الصوفي عن هذا الموضوع بمرارة، قائلة إن منطقة الحارثية وسط بغداد، والتي تشتهر بتواجد العشرات من المجمعات الطبية والعيادات الخاصة والصيدليات، تنتشر فيها ما تعرف بظاهرة الـ"Deal" حيث تعقد اتفاقات بين الأطباء والصيادلة لبيع كمية معينة من الأدوية المتراكمة لدى الصيادلة بأسعار تتضمن أرباحًا خيالية، ويكون للطبيب نسبة في تلك الأرباح.

بدأت العلاقة بين الطبيب والمريض في العراق بالتدهور مع شيوع ظواهر مثل اتفاقات "الأرباح" بين الطبيب والصيدلي التي يكون ضحيتها المريض

ووفقًا للصوفي فإن بعض الصيدليات يكون لديها عقود مع شركات الدواء تطلب منهم تصريف كمية من عدد من إصدارات هذه الشركة الدوائية، فيتم الاتفاق مع الطبيب على أن يضعها بوصفة أشخاص لا يكونون بحاجة ماسة لهذه الأدوية أو ربما ليسوا بحاجة لها على الأطلاق، ثم يتم تقاسم الأرباح بين الطبيب والصيدلي.

وتشير الصوفي إلى جانب آخر أساء للعلاقة بين الطبيب والمريض، متمثل حسب قولها في أن "المرضى الذين يقصدون المستشفيات يتعاملون مع قسم الطوارئ بطريقة غريبة"، مبينة أن "بعض الحالات التي تصل إلى الطوارئ لا تستدعي أي تدخل طبي على الإطلاق".

وتذكر الصوفي حادثة وقعت معها في مستشفى الكندي: "في الساعة 12:30 بعد منتصف الليل، جاءت امرأة برفقة ابنها المراهق تطالب بإدخاله إلى الطوارئ، وبعد حوار قصير مع هذه المرأة تبين لنا أنه خسر بلعبة على هاتفه المحمول، وأخبر أهله أن الخسارة أوجعت قلبه، ما دفع أمه لجلبه إلينا وطلب تخطيط قلب وفحصًا بالموجات فوق الصوتية!".

فقدان الثقة في قطاع الصحة دفع الكثير من العراقيين إلى الاعتماد على المداواة بالأعشاب (أ.ف.ب)

وتستدرك الصوفي، قائلة: "لكن في الوقت نفسه المستشفيات الحكومية غير صالحة للتعامل مع الناس، فجميعها يعاني من نقص في الكوادر والمعدات، مستدركة "النظام الصحي خَرِبٌ بأكمله في العراق".

"المريض هو السبب"

وفي الوقت الذي يمكن ملاحظة تراجع الواقع الطبي في عراق ما بعد 2003، فالنظام الصحي هو ليس النظام الوحيد الذي تأثر بالسلب بعد الاحتلال وتعاقب الحكومات والحروب الداخلية، إذ إن مستوى الوعي الاجتماعي للفرد وتراجع المؤسسة التعليمية، هو طرف رئيسي في هذه المشكلة كم يتضح من حديث العديد من المصادر.

وترى الصيدلانية ميسم الواعظ أن "الناس الذي يستخدمون الأعشاب غير المفحوصة في المختبر والمحسوبة بكميات وتراكيب علمية دقيقة؛ هم المشكلة، لا سيما أن الأدوية التي تباع في الصيدليات أغلب موادها الفعالة تستخرج من نباتات وحيوانات، لكن بمختبرات ومناسيب محسوبة مع ما يحتاجه الجسم البشري، وبجرعات مختلفة، إذ يختلف جرعة الدواء التي تمنح للأطفال عن جرعة البالغين على سبيل المثال".

وتضيف الواعظ، أن "العلاج الفعال والجيد يكون ذا تكلفة مرتفعة، لأن عملية صناعته التي تضمن فاعلية عالية وتقلل من الأعراض الجانبية للدواء هي معقدة ومكلفة".

العلاج الفعّال والجيّد يكون ذا تكلفة مرتفعة بسبب عملية صناعته التي تضمن فاعلية عالية وتقلّل من الأعراض الجانبية للدواء

وتوضح أن "هناك ثلاث أنواع من الأدوية، الأول يعرف بالبراند، وهو الدواء التابع للشركة التي اكتشفت العلاج. والثاني هو الجينرك وهو التابع لشركة تشتري المادة الفعالة من الشركة المكتشفة، بعد أن تنتهي مدة البيع الحصري للشركة الأولى، والذي يكون بفاعلية تصل في أحسن الأحوال إلى 80% من فاعلية البراند".

مستطردة: "أما النوع الثالث والذي يكون استنساخًا غير مرخص وغير مفحوص، وتابع لشركات دواء لا أصل لها وتنتشر بكثرة في العراق، ويكون هذا الدواء بلا فاعلية وربما يكون سامًا أو مؤذيًا، بحسب المواد الكيميائية الداخلة بصناعته"، محملةً الدولة مسؤولية انتشار هذا النوع من الدواء في الأسواق.

وينوه طالب الطب صادق مجبل، إلى حالة خطيرة أخرى، هي حين يقوم المريض بقصد المُعشّب لتشخيص حالته. يقول: "الأمر في غاية الخطورة، فالتشخيص هو مهمة محصورة بالطبيب، اعتمادًا على معطيات كثيرة وخطوات يقوم بها، مستثمرًا كل المهارات التي اكتسبها والمعلومات التي تلقاها، وليس التشخيص بالعملية السهلة، حتى يتمكن أي شخص منها أو يقفز على كل هذه الخطوات ويشخّص حتى لو أفلح مرة بالمصادفة او بناءً على قياس معين".

ويضيف صادق مبجل: "أتفهم أن الناس تجد سهولة في الحديث مع العشّاب، وغياب الثقافة الصّحية بلا شك اسهمت في ذلك، لكن هذا أمر خطير وخاطئ".

"المجرب أفضل من الحكيم"

من الأمثال الشائعة في العراق وغيرها عربيًا، هو "اسأل مجرب ولا تسأل حكيم"، ويقصد بالحكيم هنا الطبيب، كما كان يلقب سابقًا. ووفق الفهم نفسه، يقول بعض مستخدمي الأعشاب إن التجربة أثبتت فعاليتها الكبيرة بالعلاج مقارنة بالدواء الكيميائي كما يصفونه.

ويقول علي صباح، إن "الأعشاب ليست بديلًا للأدوية، لكن بعض الحالات نجحت الأعشاب في معالجتها بشكل أسرع وأنجع من الأدوية، مثل التنحيف وعلاج المشاكل الجلدية".

‎ويضيف أن "القضايا البسيطة والمحرجة يفضل الناس المعشب معالجًا لها أكثر من الطبيب، لأن أغلب الأطباء لا يملكون لغة حوار تحترم المريض، وتحترم جهله".

مع هذا الرأي يتفق أحمد منذر، وهو طالب في كلية الآداب بجامعة بغداد، قائلًا: "أنا أتحدث الإنجليزية بطلاقة، لكني أعيش في العراق الذي يتحدث العربية ولا أعتقد أن عدم تمكن عراقي ما من الحديث بالإنجليزية هو أمر يقلل من قيمته، لكن هذا الفهم لا يتفق معه الأطباء، الذين يستقصدون استخدام مصطلحات إنجليزية، وأحيانًا بعبارات كاملة مع المرضى من كبار السن ذوي المستوى التعليمي المتواضع".

ويؤكد منذر في حديثه لـ"ألترا عراق"، أن "الموت أحيانًا أفضل من تعرض رجل كبير للإهانة من قبل شاب بعمر ابنه يرفض الحديث معه بالعربية".

فيما تروي ناهدة العاني، معاناتها مع آلام المفاصل، قائلة: "لقد زرت العديد من الأطباء، وشربت الكثير من الأدوية، لكن لم أحصل على نتيجة تذكر، حتى التقيت في حافلة لنقل الركاب بامرأة بدوية نصحتني بشرب حليب الماعز بشكل منتظم، لتنخفض درجة آلام مفاصلي إلى حد كبير".

وتؤكد العاني أن هذه ليست المرة الأولى: "سبق ورأيت مقربين مني تعالجوا من أمراضهم وأوجاعهم بالأعشاب. ومن هذه الأمراض السكر والبواسير".

الخلفيات الدينية والعرفية للمرضى تمنحهم إيمانًا قويًا بفاعلية الدواء العشبي ما يحرض تأثير الإيحاء عليهم

لكن الصيدلانية ميسم الواعظ، تفسر ما قاله علي صباح وناهدة العاني بما يسمى بـ"الإيحاء الكاذب"، مبينة أن "الخلفيات الدينية والعرفية للمرضى تمنحهم إيمانًا قويًا بفاعلية الدواء العشبي، ما يحرض تأثير الإيحاء عليهم".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عائلة عراقية محتجزة في مستشفى هندي.. لعنة الابتزاز في الخارج

بعد أن تبرع لأمه بجزء من كبده في الهند.. مات ابن "قلعة سكر"