21-يونيو-2022
الأنثروبولوجيا

الثقة التي لا تستحق أن يوثق بها

في المقال السابق تحدّثت عن احتمال وجود الوعي لدى الكائنات وحيدة الخليّة، وكان مغزى النقاش، ولم يزل، هو محاولة تقديم فهم أنثروبولوجي للوعي، ثم للمعرفة باعتبارها أهم مخرجاته، وباعتبارها ميّزتنا الأهم التي تمكّننا من مراكمة المعلومات إلى درجة تجعلنا نقترب من تحقيق المعرفة الكاملة بالوجود وأسراره. وهذا اعتقاد لا بأس به مبدئيًا وهو حقيقي فيما يتعلق بعملية مراكمتنا لكم هائل من المعلومات. لكن المشكلة تبدأ من التضليل الذي تتسبَّبت به ثقتنا المبالغ بها بهذه المعرفة، فنحن نقدّسها لأننا واثقون من مطابقتها للواقع، وهذا التضليل يبدأ من تعريفنا لها ولا ينتهي عند وضعنا لكل شيء في سياقها، أو في قالبها. فنحن نضع الطبيعة في سياقنا "المعرفي"، وما يجب يحصل هو أن نضع معرفتنا في سياقها الطبيعي، أو بالأحرى أن نضع معرفتنا في قالبها الطبيعي. فكيف يمكن لنا ذلك؟ 

الكثير من الكائنات الحية تتفوق علينا في التكيّف مع المحيط التي توجد فيه

نحن نستدل على مطابقة معرفتنا للواقع من صدق أحكامنا حول مجرياته. وفعلًا لو كان حكمنا بوجود الجبل الذي أمامنا وهما تصنعه عقولنا، لاستطعنا النفاذ عبره ولما اضطررنا لتكلّف عناء صعوده، إذًا معرفتنا بوجود الجبل حقيقيَّة، وفوق هذا تأتي تقديراتنا لارتفاعه ووعورته ودرجة انحداره صادقة، بعد أن تصدّقها التجربة. لكن هذا المقدار من صدق الأحكام يتحقق عند جميع الحيوانات، بدليل أنها تتنقل عبر المحيط دون معاناة، تصعد الجبال وتسبح عبر الأنهار وتعيش في المغاور والحفر. فهل الحيوانات عارفة؟ وحتى لو اعترفنا بوجود مستوى من المعرفة لدى بعض الحيوانات، تبقى عمليات تنقل الكائنات وحيدة الخلية في محيطها وإشباعها لحاجاتها مبعث حيرة، إذ لا يمكن لنا أن نعترف بأن الكائنات البسيطة تحقق المعرفة كما نفعل نحن.

إذًا يبدو أننا مضطرون إلى القول بأن التنقل عبر المحيط عبر إدراكه لا يدلُّ دائمًا على تحقيق المعرفة. لكن هنا سنواجه معضلة أخرى، فما الذي يجعل تنقلنا عبر المحيط وتحقيق التكيف معه دلالة على المعرفة ولا يجعل تنقل وتكيف بقيّة الكائنات كذلك؟

هذا التساؤل جعلنا نلجأ إلى مستوى آخر من المعرفة، هو المعرفة المجرّدة، التي لا يمكن أن نؤكد وجودها عند الحيوانات. نحن، مثلاً، نعرف معنى الكون والحياة والمصير، وهذه مفاهيم مجرَّدة لا مصداق لها في الخارج، فليس هناك شيء اسمه "كون" لكننا خلقنا مفهوم الكون بعد تصورنا للحاضن الذي يستوعب كل الموجودات. وما دامت الحيوانات لا تدرك غير ما موجود في الخارج إذًا فهي غير قادرة على تحقيق هذا المستوى من المعرفة. 

لكن إذا تذكّرنا بأن الواقع الذي ندركه عبارة عن صورة بانورامية وهميَّة، لا تطابقه تمامًا، وأنها مرسومة في خيالنا، وأن العاملين الأهم في رسمها وهما الضوء والصوت، غير موجودين في الخارج، بل في وعينا فقط. عند ذلك لا بد أن يتسرب إلينا الشك في قيمة معرفتنا المجرّدة وجدواها، فالتجريد هنا مرتكز على تصوّرات غير دقيقة!

إذًا، فهذه المعرفة لا يمكن أن تكون واقعة في سياق إدراكنا للواقع بصورة مطابقة للحالة التي هو عليها. بل هي واقعة في سياق تعزيز فرص تكيّفنا مع المحيط، وهذا ما تفعله عمليات الإدراك على اختلاف مستوياتها لدى بقية الكائنات.

وبالعودة إلى معرفة الكائنات الأخرى، وعندما نستعمل درجة التكيف مع المحيط في تقييم عمليّة الإدراك فإننا نجد بأن الكثير من الكائنات الحية تتفوق علينا في تكيفها مع ظروف المحيط اعتمادًا على إدراكها أو "تحسّسها" للواقع. فالفيروس، مثلًا، لا يكتفي بالتكيف مع الواقع، بل هو يقفز على التحديات المستجدَّة التي تواجهه، والعقبات التي نضعها نحن البشر على طريق مهاجمته لنا، مستعملًا ما نسميه نحن بـ"الطفرات". وهو يفعل ذلك في فترات قياسية جدًا! إذًا معرفتنا عاجزة عن مواجهة سلوك كائن نصنّفه نحن بأنه كائن غير حي فضلًا عن تصنيفنا له بأنه كائن غير عارف. نحن نميل إلى الاعتقاد بأن سلوك الفيروس عشوائي ولا يستند إلى قراءة دقيقة للمحيط وتحديد التكيف الأمثل معه. لكن كيف تمكن هذا الكائن عبر العشوائية من الاستمرار بالبقاء كل هذه الملايين من السنين؟ كيف تمكن من تعريض فرصتنا بالبقاء إلى خطر مخيف عبر جائحة كورونا؟

ألا يفترض بسلوك الفيروس أن يدفعنا اتجاه التواضع بشأن تميّزنا المعرفي؟ واحتمال أن يكون نموذجنا في استثمار المعلومات أحد النماذج الكثيرة التي تستعملها الكائنات التي تتفوق علينا في تكيفها مع المحيط. فهناك كائنات تستطيع التكيف مع ظروف غاية بالقسوة كما هو الحال مع دب الماء أو "التارديغرادا" الذي هو حيوان لا فقاري مجهري يستطيع العيش دون ماء ولا هواء لمدة 10 سنوات، ويتحمل ضغطًا يزيد على 6 أضعاف ضغط قاع المحيط، فضلًا عن تحمله لإشعاعات غاما القاتلة! لماذا يمتلك هذا الكائن هذه القدرة ولا نفعل نحن؟ وهل كان كذلك دائمًا أم أنه صار كذلك نتيجة للتطور؟

حوّل الإنسان تجاربه الخاصة إلى معايير عامة

يقول كارل ساغان في كتابه "تأملات في تطور ذكاء الإنسان" ص31، إنّ "الكروموسوم الواحد يستطيع أن يخزن بيانات تعادل تقريبًا 500 مليون كلمة بمعدل ستة حروف للكلمة الواحدة"، فأي قدرة مهولة على خزن المعلومات هذه؟ وما طبيعة هذه المعلومات، وكيف يتم استعمالها في تحديد صفات الكائن؟ ولماذا لا تكون هذه المعلومات واقعة في سياق معرفي "طبيعي" يكون أكثر تطورًا من معرفتنا نحن؟ الجواب على كل هذه الأسئلة مختصر في حقيقة أننا نضع الطبيعة في سياقنا المعرفي، نحشرها في قالبنا المتواضع، بينما يفترض بنا أن نضع معرفتنا في سياقها الطبيعي لنتمكن من مقارنة تجربتنا بالتجارب الأخرى.

وبالعودة إلى دب الماء، علينا أن نسأل عن طبيعة البيانات التي تخزّنها مورثاته، ومن أين جاءته ولماذا ليس لدينا معلومات في مورثاتنا مشابه لها؟

ما أريد قوله؛ إنّنا نحوّل تجاربنا الخاصّة إلى معايير عامّة، ثقة منّا بأننا نعرف مختلف أنواع التجارب وأن تجاربنا متفوقة، وهذا تضليل ناشئ من خلل في تعريفنا للتجارب بصورة عامّة ولتجاربنا على وجه الخصوص. نعتقد أن تجربتنا في إدراك الواقع هي المُثلى ومن ثم فهي المعيار، وما شابهها يعدُّ إدراكًا ووعيًا ومعرفة وما خالفها ليس كذلك. بل نحن نحكم بأن ليست هناك طريقة ممكنة في الوعي إلا الطريقة التي نستعملها نحن. والمشكلة أننا نحن نتولى إطلاق هذا الاحكام ونحن نتولى المصادقة عليها، وهذا لا يصدر إلا عن ثقتنا العمياء بتجربتنا، وهي ثقة لا تستحق أن يوثق بها!

دلالات: