19-ديسمبر-2021

لم يكتب فرمان في شبابه عن ثورة ضد الإنجليز في العراق (فيسبوك)

عودة لفرمان

سأستعيد السؤال الذي  طرحته في بداية البحث: "كيف يمكن أن ينمو المجتمع البغدادي في سرد فرمان خلال هذه المدة الزمنية البسيطة بين زمن الروايتين بهذا الشكل الغريب، بحيث نتحول من مجتمع أمّي خالي من المؤسسات الفاعلة في السرد،  لمجتمع أبطاله متعلّمون وتظهر فيه مؤسسات الدولة بشكل واضح؟".

لم يكتف فرمان بجعل العراقي ضائعًا بل أنّه نقل للمكان هذه الصفات أيضًا وتجاوز وجود دولة بمؤسسات ناشئة في روايته الأولى

وأعتقد أن الجواب بأننا أمام هذه السرديات المعادية للفرد العراقي والنافية لهويته، التي أطلقها العثمانيون ومن بعدهم البريطانيون ورسّختها الصحافة الموالية للإنجليز وفيصل الأول وحكومته، من الطبيعي أن لا نجد "سرد دولة" يعزز من عراقية العراقي في رواية "النخلة والجيران". ومن الطبيعي أيضًا أن نجد الفرد العراقي يطفو عائمًا غير مستقر وبلا ملامح، مشتتًا وضائعًا بلا هدف. لكني أعتقد أيضًا أن أيديولوجية فرمان الشيوعية أثّرت عليه من دون أن يشعر. فهو معادٍ للدولة الملكية بكل أحوالها، ولم يذكر لها حسنة واحدة في جميع كتاباته.

اقرأ/ي أيضًا: قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (1ـ5)

لم يكتف فرمان بجعل العراقي ضائعًا، بل أنّه نقل للمكان هذه الصفات أيضًا، وتجاوز وجود دولة بمؤسسات ناشئة في روايته الأولى. سيتحسس القارئ لرواية "النخلة والجيران" أن العراق "في السرد" بلا دولة، بلا مؤسسات تُذكر بشكل حقيقي.

في البداية يكون المكان "قطعة من الأرض مستطيلة مسورة بصفائح مضلعة متآكلة مكتسية بلون الحناء، مثقوبة بثقوب مجهولة الأصل". ولذلك أيضًا نجد جملة "ذاك الصوب" تتردد كثيرًا في الرواية على لسان أغلب الشخصيات بما فيها الراوي. ونجد بغداد عند مصطفى هي "قصور وشوارع وميخانات وسينمات". ونجد وصف المنطقة "في الشارع العريض كانت الجواميس تعدو عائدة من دجلة  إلى المعدان حيث يقاسمها الناس حظائرها. لطخات سوداء في لوحة مساء داخن يزفر رائحة دهن محروق، وماء آسن تلهث به أرض طينية، ونكهات أطعمة ممزوجة برائحة رماد ساخن ونفط لم يحترق بعد". والزقاق "المترب المقعر مثل مجرى جدول قديم، والملتوي المنتهي إلى أرض فضاء، والمحصور بين حيطان طيبنية بلا شبابيك... والصراصير تغني في أذنيه، وأنفه يستقبل روائح الروث. لا نفط ولا دهن، ولا رائحة جواميس". أيضًا و"مرّت في خيالها شوارع مشجرة، شوارع بلا أسماء، عريضة ومشمسة".

وبغداد من وجهة نظر إحدى الشخصيات الملقبة بـ"الحكومة الله يسلمها"، هي "جادات عريضة، والقصور الحلوة. والحدايق اللي ترد الروح والسيارات..".  إلا أن المشهد الرئيس الذي رسمه فرمان بإبداع والذي يوضّح حقيقة "الدولة" من وجهة نظر العامّة في الرواية هو مشهد الجنود الإنجليز على الجسر. ولنلاحظ أن فرمان يجعل الشخص "السكران" يقول دائمًا أشياء لا يقوى على قولها غير المخمور، أو أنّه يجعل المخمور يقول حقيقة شخصيته بصدق.

"خرج جنديان ثملان من نادي الجنود الإنجليز في عنق الجسر وصعدا قليلاً. ثم فكّ أحدهما فتحة بنطلونه، وبال في خط طويل تحدر على جسر الملك فيصل حتى وصل إلى بائع أبيض وبيض وكان يربض على الأرض مع أربعة زبائن تحلقوا حول صينيته هم حسين، وعاطل من محلة الدهانة وسكران خرج توًا من حانه، وشرطي مولود في قلعة سكر".

إن تحليل هذا المشهد يعطينا صورة واضحة عن "الدولة" في رواية النخلة والجيران. جندي إنجليزي يبول في الشارع وهو مخمور على جسر يحمل اسم "الملك فيصل" في إحالة واضحة لسيطرتهم على الملك والدولة، يقابل فرمان الجندي الإنجليزي السكران، بمواطن عراقي سكران هو الآخر - من دون أن يحدد مستواه الثقافي - ويجعله ينطق جملًا يخاف "غير المخمورين" من التفوّه بها. يقول السكران "طلعوا اثنين غيرهم.. سكارى.. راح يبولون.. بغداد مراحيض مال انكليز.. شتكول عمي؟".

هل هناك أسوأ من هذه الصورة "بغداد مراحيض مال إنجليز"!

أما المشهد الآخر للسكارى - غير المُحدد مستواهم الثقافي أيضًا - فهو يؤكد فكرة "سرد الدولة" الذي أسسه العثمانيون والبريطانيون والملك فيصل، حيث قرروا وروّجوا أنه لا يوجد عراق، ولا توجد أمّة عراقية ولا يوجد انتماء عراقي، ولا يوجد غير تكتلات بشرية منعزلة كما يصفها فيصل الأول.

يجري الحوار في حانة بين خاجيك ومصطفى الدلال ومجموعة سكارى:

"- آني أعرفكم منو.. من جماعة هتلر.. هيع...".. "فنعق أحدهم من مكان قرب المنصة: حيّ العرب".. "يعني هيج هتلر يروح بوله بشط!".. "ظلمت حي العرب وجنود هتلر يتراكضون كدام الجيش الأحمر مثل الغنم".. "فقال الذي اعترض على حيّ العرب: النصر لنا، ولحلفائنا.. نخب الجيش الأحمر".

إن ثمار نفي الهوية واضحة جدًا في هذا الحوار، فالمتحدّثون يميل بعضهم لهتلر، وبعضهم لبريطانيا والاتحاد السوفيتي. لكن لا عراقي يُفكّر في وطنه، أو قضايا بلده.

هل قال السكارى شيئًا عن العراق عند حديثهم في السياسة؟!

هل كان هناك ولاء بينهم لقضايا تخص البلد؟! لماذا لا نجد هّم سياسي محلّي في خطاب العامّة الروائي عند فرمان!

الجواب ببساطة: إن الفرد العراقي عانى من تشتيت الهوية ولم يجد دولة تصنع له مشاعر مشتركة مع أبناء بلده، تكون نقطة بداية لصنع الأمّة حتى وإن كانت وهمية على حد تعبير الفيلسوف الأميركي جون رولز.

"صاح أبو العليجة بصرامة هذه المرة: لخاطر الله، اشبيكم مخبوصين بالسياسة؟ فكروا بالتموين، بالغلا الاسود، وبالطحين المغشوش، والصابون، بالشخاطة اللي اشتريتها اليوم بسطعش فلس.

رضي مصطفى بهذه الفكرة وقال:

- بناموسي تمام.

فقال الذي شرب نخب الجيش الأحمر:

- صدگ، خلصت گلوبنا من الحرب.. ياربي اش وكت يموت هتلر، وتفرج علينا".

وعلى الرغم من صرخة صاحب الحانة بأن ينتبهوا لأنفسهم وبما يحل من غلاء في البلاد، إلا أن الجواب يأتي في الرواية بوجهين:

الأول: من مصطفى بالتأييد لأنه "مستفيد" من تجارة السوق السوداء ومن العمل مع الإنجليز.

الثاني: من مخمور متمثلًا بالدعاء على هتلر بالموت. وكأن موت هتلر هو الذي سينجي البلد من الخراب.

هل هناك أوهام زّرعت في رأس العراقي أكثر وأضر من أن العراق ليس دولة وأن العراقيين ليسوا أمّة وأنّه لا همّ مشترك بينهم؟!

يستمر فرمان برسم صورة الشتات العراقي الذي أُسس له في العراق منذ قرون. فنجد أن العراقيين - في الرواية - يتصارعون مع أنفسهم لا مع الإنجليز، فصحاب يتصارع مع ابن الحولة، وابن الحولة يقتل صاحب، وحسين يقتل ابن الحولة، وحسين أيضًا والرجل الأحول يسخران من القروي، ومصطفى يخدع سليمة، ونشمية تخدع تماضر.. وهكذا تستمر الحكاية بصورة عراقي يخدع عراقي. فلا نجد صراعًا مع الإنجليز باستثناء جُمل بسيطة من "صاحب أبو البايسكلات".

يشح أدب غائب طعمة فرمان عن أي تحرك ثوري أو وعي وطني. بعكس أدب نجيب محفوظ الذي نجد في رواياته الكثير من الثورة ضد الإنجليز. لأن المحو المتعمد للهوية العراقية في سرد الدولة نجح بشكل كبير في انتزاع عراقيّة عامّة الناس. يقول مصطفى الدلال لصاحب "الإنكليز معيشين آلاف الناس". ونجد "حسين" مع الكثير من العراقيين يسعون جاهدين للعمل مع الإنجليز. 

ولذلك نجد شخصية صاحب في النخلة والجيران لا تتخذ موقفًا ثوريًا بل يكتفي بالقول إن الإنجليز "يجي يوم ويروحون" كأي أمل عراقي لا أحد يعرف متى يتحقق. ولذلك أيضًا لا نجد حراكًا حقيقيًا ضد الإنجليز في أدب فرمان في روايتي النخلة والجيران وخمسة أصوات، برغم ادعائه لكراهية الناس لهم ولوجودهم وللحكّام التابعين لهم، ونراه يكتفي - بذكاء - بتعليقات سطحية عامّة يائسة ومنكسرة.

في العام 1954 كتب فرمان مجموعته القصصية "حصيد الرحى". كانت التقريرية والخطابة واضحة في هذه القصص، وأستطيع أن أقول السذاجة أيضًا.

يرسم فرمان شخصية صاحب المصبغة الغني الذي يُمثّل عنصر الشر في القصة "وراقبت شاربه الكث المتجهم المصبوغ تبرق من تحته الأسنان الذهبية بريقا كريها كالعفونة.. وحاجباه يتراقصان بطرب مفتعل، وعيناه يتشنج فيهما شعور كاذب بالصبا والفتوة".

إن روح الإيديولوجيا تشعّ من هذه القصص، وتنعكس على الجُمل التي تصدر من فرمان الشاب بلا معنى سوى تعزيز القبح والعداء للطبقة الثريّة، وإلا ما معنى "بريقًا كريها كالعفونة"، كيف يكون البريق عفنًا!

كان فرمان في عزّ ثورته وشبابه، لكنه مع ذلك لم يكتب شيئًا عن ثورة ضد الإنجليز، وكان كلّ ما كتبه في هذه القصص هو حديث عن الإضرابات التي يقوم بها العمّال وحياة الفقراء وعكس صورة لروح التعاون بينهم.

لم يكتب غائب طعمة فرمان في عز شبابه عن ثورة ضد الإنجليز في العراق

بطبيعة الحال سيكون عدم الكتابة العلنية عن ثورة ضد الإنجليز في زمن احتلالهم للعراق فعل قد يكون مبررًا، أما أن لا نجد "ثورة" في العراق في أدب فرمان بعد زوال الإنجليز في روايتي "النخلة والجيران" و"خمسة أصوات"، فهذا شيء يؤكد فكرة أن سرد الدولة بشكل عام أزال الهوية العراقية.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (2ـ5)

أزمة الاستبداد.. اغتيال الصحافة في الرواية العراقية