27-مارس-2022

مجبورون على حمل الديمقراطية الثقيل (فيسبوك)

لا يمكن وصف المأساة السياسية في العراق بكلمات عادية. ستدخل العملية السياسية عامها العشرون وليست ثمّة بوادر تلوّح في الأفق حول عبور نظام المحاصصة الطائفية، لكن المعضلة الأكبر في هذا النظام السياسي المضطرب لا تنحصر في مهزلة المحاصصة فحسب، بل تحتل الديمقراطية الموضوع الأكبر من بين المواضيع المؤرّقة للنخب السياسية العراقية الحاكمة، ويمكن وصف الديمقراطية من هذه الناحية بالنسبة لهذه النخب بأنّها محض معاناة، وأفضل حل بالنسبة لهؤلاء السماسرة أن تتحول الديمقراطية إلى مزاد علني والوزارات إلى دكاكين للاسترزاق، وكل هذا يجري باسم الديمقراطية "الطائفية".

أصبح مفهوم "الكتلة الأكبر" هو الخنجر الطائفي المغروس في خصر الدولة ويُستحضر هذا المفهوم عند السياسيين كمقاومة رمزية لمحاربة الديمقراطية

 معاناتنا السياسية كـ"مواطنين" تنبع من نظام المحاصصة الكريه ونحن نرى كيف تُنهب ثروات البلد ويتقاسمها أنصاف الأميين. ومعاناة النخب السياسية الحاكمة تنبع من هذه الديمقراطية التي أصبحت بمنزلة الصداع المزمن الذي صدع رؤوس هؤلاء. لكن لو جمعنا معاناتنا كموطنين ومعاناة هؤلاء سيتمخض الحال عن مأساة كبرى اسمها الديمقراطية في العراق. ذلك أن معظم المآسي التي توارثناها بعد 2003 نابعة من هذا الفرض القسري للديمقراطية على نخب سياسية لم تفكر فيها على الإطلاق، ولم تفرد لها مكانًا خاصًا في معجمها السياسي، وبينها وبين الديمقراطية كراهية وعداء شديدين.

اقرأ/ي أيضًا: عن الحرية المُختَطَفَة في العراق

ولولا العصا الأمريكية الغليظة والإلزام القسري بمقررات الديمقراطية لتفجرت حمم الطغيان من أعماق التنظيمات الحاكمة، لأننا ذكرنا أكثر من مرّة، واستنادًا إلى الوقائع، أن عموم النخب السياسية، وبالخصوص التنظيمات الإسلامية، لم تضع في حساباتها فكرة الديمقراطية، ولم تكن من أولوياتها فسح المجال للحريات، ولا يوجد في أجنّدتها تعريفًا واضحًا لمفهوم الدولة. وكيفما توجهنا وتعمقنا في شؤون هذه الأحزاب التي تضمر للديمقراطية كراهية شديدة، سنجد هذه الحقيقة شاخصة أمامنا: إن الديمقراطية التي فُرضت على النخب السياسية العراقية الحاكمة عرقلت الكثير من مساراتها السياسية. فليتخيل المرء لولا الفيتو الأمريكي وعصاه التي يلوّح بها هل كان لهؤلاء أدنى مبادرة لرفع لواء الديمقراطية في عراق ما بعد 2003؟ لنا الحق أن نشكك في ذلك الأمر، خصوصًا أن سلوك هذه النخب لا يوجد فيه مكان شاغر للممارسة الديمقراطية، ولذلك نراهم كلّما ضاقت بهم السبل في نتائج الانتخابات ارتموا في حضن الطائفة، وانقلبوا على مقررات الديمقراطية، واتخذوا من الطائفة ملاذهم "الديمقراطي" الأخير.

إنهم مجبورون على حمل الديمقراطية الثقيل، ومن بين كل المؤتمرات والكرنفالات الطائفية التي ينشطون فيها في الحفلات الانتخابية، لا نعثر على مؤتمر واحد للتثقيف من أجل الديمقراطية، بل يزداد التحشيد الطائفي بشكل مضاعف. لقد أصبح مفهوم "الكتلة الأكبر" هو الخنجر الطائفي المغروس في خصر الدولة، ويُستحضر هذا المفهوم عند السياسيين كمقاومة رمزية لمحاربة الديمقراطية، وهذا أضعف الإيمان بالنسبة لهم لتجنّب العصا الأمريكية.

طبعًا لا حاجة إلى التذكير بوجود الفصائل المسلحة في ظل دولة تعتمد على آليات الديمقراطية، لكنها في ذات الوقت ترفع شعار المقاومة المسلحة! وعادة ما تكون هذه الأخيرة أداة تهديد بشكل غير مباشر في حال فشلت حظوظهم بحيازة الكتلة الأكبر، وبخلاف ذلك ستكون الديمقراطية الماء الزلال الذي ترتوي منه الأحزاب الإسلامية. لكن من جهة أخرى سيظل كابوس الديمقراطية جاثمًا على صدورهم لزمن طويل ولا يمكنهم المغامرة أو التجرؤ ببديل آخر رغم حنينهم القاتل لممارسة الاستبداد، والفضل يعود من هذه الناحية لمحاسن الديمقراطية التي تحد من الاستبداد.

إنّ الخبر "السار" في ذلك كله، هو مهما كانت الديمقراطية قناعًا تتغطى به الأحزاب الحاكمة، ومهما جادلنا في الكراهية الشديدة التي تضمرها لكل ما هو ديمقراطي، فإنّ بعض الأحزاب ذات التوجه العقائدي بدأت، بشكل وبآخر، تتخذ من التداول السلمي للسلطة طريقًا أساسيًا للحكم، وأصبحت الديمقراطية هي فرس الرهان في الساحة السياسية العراقية المضطربة. قد يبدو هذا الكلام مثاليًا ومبالغًا فيه، لكن الواقع يسنده بدليل أن الديمقراطية، على علّاتها، أضحت لبعض الحركات الناشئة، وقسم ضئيل من التنظيمات العقائدية، وإن كان المرء يشكك في تلك النوايا، تتخذ من الديمقراطية كخارطة طريق لا بد منها. هذا التفاؤل الحذر قد يتسع نطاقه في المستقبل ويتحول من كونه الكابوس الثقيل إلى حلم تحققه الأجيال الجديدة ويذهب الطغيان من العراق إلى غير رجعة، فوظيفة الديمقراطية هي أن تلجم الطغيان وما أحوجنا، نحن العراقيين، إلى مغادرة حقبة الطغيان، وأن تنتبه أجيالنا الجديدة إلى محاسن الديمقراطية ويمارسونها فيما بينهم بدلًا من ممارسة الاستبداد وتغليب منطق القبلية، فلولا التداول السلمي للسلطة لما رأينا بعض هذه الكيانات الناشئة التي وصلت للبرلمان بفضل الديمقراطية.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن مخاطر "النفاق الديمقراطي" في العراق

العراق: ديمقراطية يتيمة وذاكرة قومية مضطربة