01-نوفمبر-2022
الشيعة في العراق

يناقش الجزء الأول السنوات التكوينية للشيعة العرب (Getty)

تكمن أهمية كتاب شيعة العراق لأسحق نقاش، والذي صدر عن "دار المدى" في منتصف تسعينيات القرن الماضي، من ترجمة عبد الإله النعيمي، في دراسته للظروف التكوينية لهذه الجماعة الدينية السياسية بعيدًا عن الدراسات المذهبية/الفقهية التي تتناول البنى الفقهية لهذه الجماعة، ومقارنتها بالبنى الفقهية الأخرى، ومنهم الصفويون الشيعة أيضًا. إن الكتاب يشتغل وفق منظورات التحليل السوسيولوجي، والأنثروبولوجي، للمرحلة التكوينية الأولى لشيعة العراق بوصفهم جماعة سياسية تبحث عن تمثيل سياسي لها، وهذه المنهجيات تخدم، حسب ما أعتقد، إمكانية قراءة موضوعية للتاريخ، كونها تنطلق من الشروط أو الظروف الموضوعية لإنتاج الجماعة السياسية/الدينية.

يركز كتاب "أسحق نقاش" على متغير حاسم في حياة شيعة العراق ألا وهو تشيّع العشائر العربية في منطقتي الوسط والجنوب

يقع الكتاب على مدخل و أربعة أجزاء ضمن مجلد واحد. يناقش الجزء الأول السنوات التكوينية للشيعة العرب، كجماعة دينية سياسية، ويقع في فصلين، ويناقش في الجزء الثاني المتغير الحاسم للشيعة العراقيين، وهو دخول البريطانيين ونشوء الدولة الحديثة، ويناقش في الجزء الثالث والرابع الطقوس والممارسات الدينية وتحولاتها، وتدهور المؤسسات المالية والثقافية بعد تمركز سلطة الدولة الحديثة.

الشيعة

إن الأسئلة الجوهرية التي يطرحها هذا الكتاب تشتمل على بحث تاريخي سوسيولوجي، وأنثروبولوجي بالدرجة الأساس للشيعة العرب، وهذا لا يعني أنه أغفل الجوانب الفقهية في مراحل تأسيس وتطور هذه الجماعة، إلا أنه يركز على المتغيرات الواقعيةوتأثيرها بتشكّل الشيعة كجماعة سياسية دينية متمايزة ثقافيًا عن شيعة إيران، وكذلك تأثيرها بالقرار السياسي، ورؤية المجتهدين بوصفهم المؤسسة الدينية، وكذلك تأثير هذه المتغيرات على الطقوس وشعاراتها وكثافتها. كل هذه الأسئلة تنطلق من خلال متغيرين حاسمين يمكن استنتاجهما من خلال الكتاب، وهما؛ توطّن القبائل العربية الرُحَّل وتشيعها، وكذلك نشوء الدولة الحديثة الملكية في العراق.

ابتداءً، يركز الكتاب على متغير حاسم في حياة شيعة العراق، وأساسًا نحن لا نستطيع أن نتخيل مقولة "شيعة العراق" دونه، ألا وهو تشيّع العشائر العربية في منطقتي الوسط والجنوب، وخصوصًا القبائل القريبة من النجف وكربلاء بوقت قياسي ضمن أجواء القرن التاسع عشر. وهذا يحيلنا أيضًا إلى كتاب إبراهيم بن فصيح الحيدري "عنوان المجد"، وهو أول دراسة في القرن التاسع عشر يحصي فيها بالتواريخ والأرقام عملية تشيّع العشائر، بعد انتقالها من نمط الإنتاج البدوي إلى نمط الإنتاج الزراعي، وربما نتناولها في مناقشة أخرى.

إذًا، ينطلق أسحق نقاش من هذا المتغير المركزي لنشوء الشيعة العراقيين، كجماعة سياسية متباينة عن شيعة إيران، أذ يقدم تاريخًا واضحًا لتشكّل هذه الجماعة، ضاربًا فيها المزاعم التي تتحدث عن قدم عهد التشيّع في العراق، فيرجعه إلى عهد حديث، وتحديدًا إلى التطور الذي حدث بعد تشيّع القبائل العربية.

 كانت هذه القبائل، والتي تشكّل غالبية سكان العراق آنذاك، هي قبائل بدوية تعتمد الترحال وضمن أحلاف قبلية، وكانت هذه معضلة الدولة العثمانية في محاولة بسط مركزيتها خارج الولايات، فكانت الخطة العثمانية، حسب إبراهيم الحيدري، أن يتم بناء شبكة إرواء جديدة، وتفعيل مشاريع الأرواء القديمة، حتى تستقر هذه القبائل في هذه الأراضي، وتنتخب أسلوب الزراعة كنمط إنتاجي لها، وهذا ما حصل بالفعل. إذ وبفترة قياسية استقرت معظم قبائل الوسط ضمن الحدود الجغرافية للنجف وكربلاء، سبق فعل قلب نمط الإنتاج هذا صعود النجف وكربلاء بوصفهما المعقلين للمذهب الشيعي في العراق منذ منتصف القرن الثامن عشر، والذي كان الممهد، حسب وجهة نظر أسحق نقاش، لتكوّين فكرة الدولة الشيعية في العراق.

عمل استقرار هذه القبائل وتشيّعها بعد احتكاكها بهذه المدن، التي اختارها "المتريّفون الجدد"، كمراكز اقتصادية لهم، والذي تزامن مع تشظي التحالفات العشائرية المشهورة، ونشاط ممثلي المجتهدين في النجف وكربلاء داخل "الأرياف الجديدة" والقديمة. هذه المتغيرات، حسب الكتاب، هي من صنعت المجتمع الشيعي العراقي الجديد منتصف القرن التاسع عشر بقيمه الثقافية العراقية وتطلعاته السياسية.

إن هذا المنتج الاجتماعي الجديد، والذي نستطيع قياس تباينه القيمي والثقافي عن شيعة إيران، وعن هذه النتيجة يتحدث الكتاب "وكانت السمة المحددة لهذا الكيان السياسي العشائري تتمثل بالتفاعل الاقتصادي ـ الاجتماعي الهائل بين العشائر التي تشيّعت وبين النجف وكربلاء، العصب المركزي لذلك الكيان السياسي. وكان هذا التفاعل في جوهره نوعًا من الشراكة السياسية بين المكونات العشائرية والمدينية وكذلك بين الأفراد الاعتياديين ونخبة المجتمع الشيعي، الذي كان حجمه ينمو باستمرار".

كان المجتهدون الكبار هم المشرفون على هذه الشراكة، كما أنهم منظمون ومراقبون مواردها وضرائبها وهباتها الدينية. إذًا نحن أمام كتلة اجتماعية اقتصادية جديدة ومتباينة، وذات ملامح فريدة في قيمها وثقافتها، التي تجسدت في شعائرها المختلفة عن شعائر المذهب في إيران، حيث تعتمد ثيمة الشعائر لدى شيعة العراق على قيم الإيثار، والرجولة، والتضحية، وهي تتناول حادثة الطف في تماهٍ بين ما هو ديني وعشائري، بينما تعتمد ثيمة الطقس عند الشيعة الإيرانيين على فكرة الثواب والعقاب.

 وصلت ذروة هذا التطور لهذه الجماعة السياسية على صياغة رؤيتها السياسية للحكم والتمثيل، حتى وصلت أفكارهم لفكرة دولة شيعية في العراق  على فريق من المجتهدين. أُجهِضَتْ هذه الفكرة مع دخول البريطانيين وقيام الدولة الحديثة في العراق.

بعد دخول البريطانيين العراق وتشكّل الدولة العراقية الحديثة، صار أمام الشيعة العراقيين ومجتهديهم متغيّر حاسم، وهو متغير الدولة المركزية بما يتضمنه من خطاب أيديولوجي إدماجي جديد للجماعات. هذه الجماعات التي كانت تعيش منذ قرون خارج عن أي سلطة مركزية صاروا الآن أمام متغير هيكلي جديد هو الدولة. وتحت ضغط هوية الجماعة، وحلم الدولة الشيعية سعى الشيعة كجماعة سياسية مسعىً انفصاليًا أول الأمر على نمط الحكم وشكل الدولة، وتحددت تلك المساعي من خلال ثورة العشرين، وبعد وفاة المجتهد الأكبر شيخ الشريعة الأصفهاني بعد ثورة العشرين، وفشل المجهدين في اختيار مرجع أكبر بينهم، وسعي الدولة ضمن نشاطها الأيديولوجي العروبي إلى دمج الشيعة العرب في الدولة. وأدى كذلك صعود بغداد بوصفها عاصمة الدولة الجديدة وإضعاف النجف وكربلاء، حتى لم يعد باستطاعة هذه المدن مع مجتهديها تعبئة الجماهير، وكذلك تسفير بعض المجتهدين الفرس؛ أدت هذه العوامل وغيرها إلى إضعاف سلطة المجتهدين في القرار السياسي للدولة، حيث "نجحت الحكومات السنية المتعاقبة في شق النخبة الشيعية التي تكونت قبل تأسيس الحكم الملكي. وفي حين أن شيوخ العشائر برزوا كقوة في السياسة العراقية، عُزِلَ المجتهدون عندما سعت الدولة إلى رسم حدود واضحة بين الدين والسياسة، ولم تنبثق مؤسسة دينية شيعية قوية في العراق".

وبالقياس إلى المؤسسة الدينية في إيران، فقد كانت على نشاط كبير في رسم سياسة الدولة، وهم شكلوا في الدولة البهلوية طبقة حاكمة تقليدية ذات مسارات واضحة، على العكس طبعًا من المجتهدين الشيعة في العراق.

 هذه التغيّرات الحاسمة استطاعت أن تحوّل الشيعة، كجماعة سياسية، من كونها تعيش الهاجس الانفصالي، حسب وجهة نظر مجتهديهم، إلى أن تعيش هاجس التمثيل السياسي والإداري، وصار نضالهم ينصب على هذه الإشكاليات فحسب، منذ تسفير بعض المجتهدين خارج العراق وقيام شيوخ العشائر كطبقة سياسية جديدة.

إن الفكرة الجوهرية التي ينطلق منها أسحق نقاش ليست طارئة على المتفحص الرصين لتاريخ العراق وجماعاته الطائفية أو القومية، أنها فكرة التداخل بين التقسيمات التي بنى عليها (حنّا بطاطو) مشروعه الضخم "العراق"، وكذلك الفكرة الجوهرية التي حركت علي الوردي في تحليله للمجتمع العراقي بوصفه ثنائيات متداخلة بداوة /حضارة. هذا التداخل بين الطبقة، مثلًا، والطائفة، أو بين الطبقة و الهوية القومية، أو بين الحضارة والبداوة، التي ميزت مشاريع بطاطو والوردي، يوظفها أسحق نقاش في فهمه للجماعة الشيعية، فيضع لها تباينًا داخل المذهب الواحد بين الشيعة العراقيين والشيعة الإيرانيين, مرد هذه التباين الطبيعة التداخلية بين التقسيمات ذاتها.

كانت الجماعة الشيعية في العراق تعيش هاجس التمثيل السياسي والإداري وصار نضالهم ينصب على هذه الإشكاليات

أسحق نقاش في بحثه هذا قد أكمل الحلقة في الداخل بين ما هو طائفي وما هو عشائري في إنتاج هوية الجماعة الشيعية العراقية وقيمها، فتصير هذه التحليلات القيّمة التي قدمها نقاش في كتابه جوابًا موضوعيًا شافيًا لسؤاله الانطباعي، الذي ربما يكون ساذجًا في بداية الكتاب، وهو السؤال الذي دفعه لبحث تشكل هذه الجماعة ومميزاتها: "لماذا يحارب الشيعة العراقيين الشيعة الإيرانيين في حرب الخليج الأولى؟".

دلالات: