في التقاليد العشائرية العراقية ثمة أحكام قاسية تُتَّخَذ بحق الخارج عن قوانينها "المقدسة"، فسيُقام عليه الحد الرمزي، وهو ما يسمّى في الأدبيات العشائرية "كسر العصا". والمقصود من هذا المعنى، هو أن العشيرة لن تتكفل في المستقبل بحماية هذا الشخص من الأخطار المٌحتَمَلَة. إنها عملية نبذ وإقصاء تشكّل روح الأعراف العشائرية. وليس بالضرورة أن من تعرّض لهذا الكسر قد بدرت منه بادرة خطيرة؛ فالوقوف بوجه الشيخ، ومعارضة قراراته، ومحاولة التميّز، فهذه كلّها مصدر قلق لشيخ العشيرة، وهواجس مخيفة بوجود علامة بارزة على فهم الحرية، وهذا ما لا يمكن السكوت عليه من قبل العشيرة وشيخها الأكبر. إن النبذ والإقصاء الذي تمارسه العشيرة على معارضيها، هو أحد الآليات الدفاعية الناجحة لكسر شوكة المعارضين.
على أننا لا ننكر بعض الإجراءات الرادعة والمفيدة التي تتخذها العشيرة ضد بعض أفرادها حفاظًا للسلم الأهلي والتمسّك بأواصر القرابة المتينة بين العشائر، ونبذ كل من تسوّل له نفسه بزعزعة هذه الأواصر. لكن، كما هو واضح في السياق، أن العشيرة في نهاية المطاف ليست مؤسسة ديمقراطية. إن المجتمعات التقليدية، التي لم تندمج في الحضارة الحديثة، لا تقيم وزنًا لمخترعات حداثية، من قبيل حزب، رابطة، نقابة، تجمّع، وغيرها من الحركات الاجتماعية التي أفرزتها الحضارة الحديثة. إذ تبقى السمة الجوهرية لهذه المجتمعات هي الولاءات الشخصية القائمة على العلاقات الإيمانية. وثمة ما يعزز هذه الثقافة المتأصّلة في المجتمع العراقي، وأعني بالضبط المؤسسة الدينية التي تشكّل الفتوى الشريعة أحد أعمدتها الراسخة من جهة، والعمق التاريخي للعشائر ووجودها الضارب في القدم في العراق من جهة أخرى. فتولدت على أثر ذلك ثقافة تمرّد وممانعة ضد كل شيء خارج هويتها التاريخية، إلّا أنه مع شديد الأسف، لم تسفر هذه الممانعة عن شيء سوى الصراع على السلطة.
والمفارقة المؤلمة هنا، وبقوة الذاكرة العشائرية المتأصلة في أعماقنا، أنه لم تسلم حتى التنظيمات السياسية التي حكمت العراق لاحقًا من هذا الأثر، على الرغم من توجهاتها العَلمانية؛ فسواء كانوا من جهة المدنيين أو العسكر فالمخرجات واحدة: روح الشيخ التي لم تفارقهم. لقد انعكست روح الشيخ في كل مفاصل حياتنا الاجتماعية والسياسية، وفي كثير من الأحيان يصعب عليك الفرز الحقيقي بين الفئات التي تحمل لواء الحداثة، وبين الفئات المحافظة (كان أحد الأساتذة الجامعيين يكثر من الكتابات والصور التي تمجّد قيم عشيرته، ويسرف كثيرًا في مديحها على مواقع التواصل الاجتماعي) لذلك تبقى معادلة غرامشي هي المعيار الآمن، وهي الممارسة السياسية. أي لا يمكن الاطمئنان إلى الحجج المنطقية والشعارات الحداثية التي ترفعها بعض الفئات الاجتماعية المعارضة للسلطة ما لم تنخرط في الممارسة السياسية، فبخلاف ذلك ستبقى الشعارات حبرًا على ورق. إذ يخبرنا تاريخ العراق السياسي، أن المعارضين يدخلون إلى السلطة بهيئة الحمل الوديع، ثم ينقلبون فيما بعد إلى وحش كاسر.
إن التحول السريع من مجتمع تقليدي تحكمه البنية القبلية - المذهبية، إلى مجتمع دولة ومؤسسات كانت نتيجته دمًا ودموعًا؛ فقد انتصر القائمون على الأمر إلى ذاكرتهم الأصيلة، وقاموا بنبذ وإقصاء كل معارضيهم بقسوة مرعبة لم تشهدها باقي الدول العربية، وتنكروا لقيم الدولة الحديثة، فسقطت هذه الأخيرة بين براثن المستبدين فأحالوا العراق إلى مسلخ كبير للخصوم، فترتب على ذلك أثر مخيف: مجتمع منغلق على نفسه. فسواء ارتدينا الأزياء الأوروبية، والأحذية البرّاقة، ودخلنا الأندية الاجتماعية الراقية، ودرسنا في الأكاديميات، فسيبقى شبح الشيخ يطاردنا، في البيت، والشارع، والمدرسة. إن السلطان الحقيقي الذي يتحكّم في الذهنية العراقية، هو ذلك الشيخ الذي يطل علينا في كل مرّة فيفضح ادعاءاتنا. ثمة صوت خفي نسمعه في أعماقنا، يردد هذه العبارة دائمًا: كلنا شيوخ!
اقرأ/ي أيضًا:
دولة العشائر.. بين فقدان الشرعية واستثمار الهوية
استقواء بالكتل و"شيوخ" يغيّرون قادة أمن.. نزاعات عشائرية تنتعش بـ"القانون"