20-ديسمبر-2019

الكثير في "فيسبوك" يغذون انفعالاتهم اعتمادًا على أهم العناوين التي تتصدر فيه (فيسبوك)

إبداء مواقفنا في مواقع التواصل الاجتماعي لا يجعل منّا مختلفين. الأداء السياسي وتطبيق ما نؤمن به عمليًا هو المعيار الوحيد للبرهنة على التمايز. على سبيل المثال، إدانتنا لأداء السلطة مهم جدًا ويخلق مساحة واسعة للرأي العام، ويشكّل معارضة شعبية في المستقبل، تدفع باتجاه التغيير. غير أن المشاركة الفعلية، والأداء السياسي هو المحك الرئيسي لإثبات الفوارق الرئيسية بين الأحلام الذهنية والفعل السياسي الحقيقي. إن المنشورات الفيسبوكية التي تغلي تجاه التغيير، والتي تحمل طاقة "نقدية" عالية بنفس الوقت، وتتسم بالجذرية وعدم المجاملة على الإطلاق، يمكنها أن تداعب وجدان الكثير من الشباب والشابّات، لكنّها تفتقر للترجمة الفعلية على أرض الواقع. ومؤكد أنه ليس المطلوب من الجميع أن يعلن نفيرًا عامًا للمشاركة السياسية ورفع مشعل التغيير. فهنالك من ينوب عن هذه الحشود ويترجم آمالها عن طريق المشاركة السياسية، غير أن الأغلبية تميل إلى الشعارات.

إدانتنا لأداء السلطة مهم جدًا غير أن المشاركة الفعلية، والأداء السياسي هو المحك الرئيسي لإثبات الفوارق الرئيسية بين الأحلام الذهنية والفعل السياسي الحقيقي

نحن لم نجرب ما نتمناه، وهل حقًا أننا متفوقون على الآخرين، ومنزهون عن الخلافات والتخوين والتكالب على المتاع الرخيص. وبصرف النظر عن كل هذا، ينبغي طرح السؤال التالي: إلى من نوجه كلامنا؟ هل نوجهه إلى أشباح، أم إلى شخوص واضحة المعالم والملامح، أعني هل توجد جبهة معارضة واضحة بإعلامها وشخوصها وخطابها التقدمي. لكي نقتنع على الأقل، أن مستقبل هذه الأجيال سيكون بأيد أمينة في المستقبل القريب، لا أن تكون مأسورة تحت رحمة "الفورات التنظيرية" التي يغلب عليها الطابع الانفعالي والحماسي، وقد تكون في التحليل الأخير لا تختلف عمّن تعارضهم سوى بالشكل، أما في المضمون فهم متشابهون على حد سواء. إن الهجوم الكلامي على الجبهة المضادة، الكتابات الإنشائية ذات الطابع العاطفي في مواقع التواصل، لا تشكّل جبهة معارضة حقيقية.

اقرأ/ي أيضًا: التغيير بين الحلم والواقع

 إن الجمهور الذي يركّز طاقته في هذه المواقع، هو جمهور أوهام وأشباح عمومًا، أشباح موسمية تظهر مؤقتًا لتغذية انفعالاتها من الصخب، وهي في جوع دائم لأي حدث يشبع نهمها للفوضى والصراخ. ليس لها وجود فعلي على أرض الواقع؛ فظهورهذا الجمهور واختفاؤه، وهدوءه وانفعالاته، يعتمد على طبيعة الحدث، وهو مصداق للمثل الشهير "حشرُ مع الناس عيد".

إنه جمهور يغذي خيالاته الجامحة اعتمادًا على أهم العناوين التي تتصدر مواقع التواصل الاجتماعي. فبالتالي الحذر واجب في عدم التصديق المطلق بهذا الجمهور، وبتعبير آخر، أن لا نتفاءل كثيرًا بهذه الجموع العاطفية ونتوقع منا شيئًا مختلفًا. الخطاب الذي يقوم على التذمّر والتهكّم والتكرار سرعان ما يتلاشى ويخفت بريقه وينزوي جمهوره، وتختفي نجومية كتّابه بانتهاء الحدث الذي يغذيه.كل شيء في الأحداث يعطينا مؤشرًا واضحًا لا لبس فيه، وهو غياب النقطة المرجعية، والتي تعني ما تعنيه غياب جبهة تقدمية موحدة، يمكنها أن تقود هذه الجموع (إن كانت صادقة) وتشكّل منها جبهة معارضة واسعة.

لا يوجد لدينا سوى منصّات التواصل الاجتماعي لنعلن فيها عن وجهات نظرنا: سيل هائل من الآراء، يقابله عوز قاتل لتنظيم الصفوف. بالتأكيد أن وجهات النظر التي ندلي بها لا نعدم أهميتها، فالاستثناء موجود على أي حال، لكننا نعرف جيدًا أنها لا تشكل معارضة صلبة للسلطة القائمة. إذا ما كانت ثمّة جمهور فقير ومغلوب على أمره، فهو جمهور الكوكب الأزرق!؛ إذ وجد نفسه علمانًيًا وليبراليًا دفعة واحدة، غير إنه، وسواء يشعر بذلك أم لا، يعتبر من أكبر الانسدادات في عملية التغيير، لأنه لا زال متدرعًا بذات العقلية الأصولية التي تعاني منها الجماعات الدينية المتطرفة، لكن، بالتأكيد يختلفون بالدرجة. والأغرب من ذلك كله، استطاع هذا الجمهور من الضغط على بعض الكتّاب المستقلين، الذين أتاحت لهم مواقع التواصل الاجتماعي هامشًا من الحرية، لكنهم يعجزون عن مخالفة المزاج السائد، وإلا ستُشن عليهم حملات شعواء يجري فيها تسقيطهم، والمفترض أن لا يعتني الكتّاب المستقلون بهذه الحملات الهمجية، وأن لا ينصاعوا لأوهام هذا الجمهور الموسمي، اللهم إلا ما يهدد حياتهم.

يبقى العراق محكومًا بمحركات اجتماعية ضخمة، وتتمتع بمؤسسات وحرس وإعلام ضخم للغاية، وأعني بهذه المحركات، الرموز الدينية والطائفية والقبلية. في مقابل ذلك، يوجد جمهور هستيري متذمّر من كل شيء، يحلو لنفسه التميّز عن هذه المحركات المذكورة من دون وجهة نظر عقلانية مقتنعة، ولهذه اللحظة لم يثبت لنا أنه مختلفًا عنها، اللهم إلا بخطاباته الافتراضية ذات البعد الملائكي. فمن يشاهد هذه الحشود الغفيرة التي تقطن هذا الكوكب الأزرق، سيعلم كم جبهة ومركز قوى على شباب تشرين أن يثوروا ضدها؟! إذن، لا تتبجح بهويتك "التقدمية"، إنما أداؤك هو المعيار الوحيد للتمايز عن الآخرين، وليس المكوث في هذا الكوكب الأزرق.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

خصومات مزمنة ومعارك ذهنية

التنظيم السياسي.. وقاية من الدكتاتورية المضادة