09-يوليو-2019

في البلاد العربية الآن يتم دعم الاستبداد عبر دول خارجية تعتبر "الديمقراطية" شبحًا لها (تويتر)

تخبرنا التجربة العملية - وليس الإعلام- عن حال الأحزاب الدينية. فبعد الشعارات المزلزلة، من قبيل "إنزال حكم الله في الأرض" و"أمريكا الشيطان الأكبر"، وجدت هذه الأحزاب نفسها في معادلات وصفقات تدفعها صوب الواقعية. والواقع يقول لها أن تكون أحزاب برامجية خدمية. ويمكن لها استدراك خجلها من هذا التحول أن ترعى إحدى الفضائيات المذهبية؛ فقليل من الطقوس والمحاضرات والدروس الفقهية يشفع لها ما تركته خلفها من شعارات طنّانة. وبقيت هذه الأحزاب الإسلامية رهن صفقاتها التي يسيل لها اللعاب، ذلك أن امتيازاتهم تعدّت بكثير امتيازات الأباطرة، والأغلبية تبارك لهم تلك الهبات الجهنمية.

حرية التفكير وتوطيد العدالة وسيادة القانون ستبقى أجنبية عن قواميس الأحزاب الإسلامية في العراق إلى أجل غير مسمّى

 إن الأحزاب الدينية حذت حذو الحكومات الديمقراطية "المحترمة" من هذه الزاوية بالتحديد: تمنح حق التعبير عن الرأي، وتمنح نفسها أن تفعل ما تريد، والأحزاب الدينية من هذا الجانب مقلد كبير وتطبّق ربع الحكاية الديمقراطية، إنهم "يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض".  فأينما تعلق الأمر بالتغطية على مخازيهم، ضخوا للمواطنين كمية من التنفيس عن الرأي (أليست هذه ديمقراطية؟!). وبهذا يمكن القول إن أحزابنا وضعت القدم الأولى للسير نحو "الدمقرطة"، لكن في شقها التفريغي القائم على حرية التعبير عن الرأي نسبيًا، إما حرية التفكير وتوطيد العدالة وسيادة القانون ستبقى أجنبية عن قواميسهم إلى أجل غير مسمّى.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا فعل "شيعة السلطة"؟

لو تضامن الناخبون فيما بينهم للضغط على مرشحيهم "الديمقراطيين" للوفاء بوعودهم، سيشعر المرشحون لاحقًا أن هناك رقابة شعبية صارمة تحاسبهم. لكن ناخبينا، سلمهم الله، يعملون بمبدأ الطاعة العمياء، أو ضمن منطق "طبق ولا تناقش". ولديهم عقد اجتماعي خاص أبرموه مع قادتهم مستوحى من ثنائية السيد والعبد، لا يحق لهم الاستنكار والتأثير على أدبيات الجماعة الممسوكة التي تميل إلى الانغلاق على نفسها، ولا يحق للآخرين- خارج هذه الجماعات- نقدها. الديمقراطية ليست سوى شكلًا مخجلًا للاستيلاء على السلطة في نظرهم.، فلا ديمقراطية ولا بطيخ!.

هذا اللون من مقاومة التغيير يعمّق ويشجّع إعادة الإنتاج ويراكم من رأس المال المادي والثقافي لدى السلطة المنتخبة التي تمثلنا؛ ينعمون هم وعوائلهم بلذائذ العيش والثراء الفاحش ويبعثون أولادهم لأرقى الجماعات العالمية. فيما يبقى رأس مال الناخبين المادي مجموعة من البيوت المتعفنة وطرق العيش الذليلة، أما رأس مالهم الثقافي، فهو عبارة عن أمية مرعبة، أو في أحسن حالاتهم شهادات جامعية هي أقرب لشهادة الوفاة منها إلى الشهادة الجامعية المحترمة. وهكذا تحظى السلطة بكل صنوف رأس المال المادي والثقافي وتراكمه بمرور الزمن وتعيد إنتاج نفسها، لتبقى المعادلة كما هي: الناخبون يبقون معامل ضخمة لإنتاج للسلطة والطغيان، فيما هم يقبعون في مقابر النسيان.

 وبشكل عام تبدو هذه الوضعية عملية تواطؤ بين الحاكم والمحكوم، ففي النظرية الماركسية تغدو السلطة ملكية بيد الطبقة المهيمنة التي تمتلك جميع أجهزة الدولة. وبحكم هيمنتها على وسائل الإنتاج ينقسم المجتمع إلى حاكمين ومحكومين، بتعبير أدق: طبقة مهيمنة وطبقة مُهَيمَن عليها.

تتمظهر أشكال الحفاظ على هذه السلطة عن طريق القمع من جهة وترسيخ أيديولوجيا الطبقة المهيمنة من جهة أخرى، فيكون القمع والأيديولوجيا وجهان لعملة واحدة تترجمان سلوك الطبقة المهيمنة. لكن ما نراه في أنظمتنا السياسية ينحرف عن جادة النظرية الماركسية، فهذه الأخيرة وإن كانت تجاور، أو تساهم في تفسير واقعنا السياسي، غير أنها لا تفسره بالمطلق. فالمفارقة الغريبة هنا، أن المُهَيَمَن عليهم يجودون بحقوقهم المادية والمعنوية للطبقة المهيمنة بطيب خاطر!، بمعنى أن "الدولة" العراقية لا تحتاج إلى تحشيد "أجهزتها الأيديولوجية" - بحسب الفيلسوف لوي ألتوسير-، بل أن "المواطنين" رهن هذه الأجهزة بلا إكراه. بتعبير آخر: إن "المواطنين" هم أحد الأجهزة الأيديولوجية للدولة!،  فبالتالي، أن كل مؤسسات الدولة تمثّل مرآة ناصعة لعموم المجتمع، وبالخصوص المؤسسة الدينية التي تشكّل درعًا حصينة للمواطنين في رفضهم وقبولهم: إنهم ينتظرون الفتوى للرضا والقبول بهذا النظام أو ذاك.

المجتمع العراقي، يتحرك فيه الكثير من الناخبين وفي أعماقهم تقنيات المراقبة والتأديب، لا بل التأثيم؛ فالذهاب والحج إلى صندوق الاقتراع يمثل رمزية لا يستهان بها 

في الرجوع إلى  الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لتحليل واقعنا السياسي، اعتمادًا على الكاتب نجيب مجدوب، نجد أن السلطة ليست ملكية، خلافًا للنظرية الماركسية، كما أن نظريته لا تلغي الصراع الطبقي، وإنما تذهب على أن السلطة لا تتموضع في مكان. بمعنى أن المسلّمة الماركسية في مركزية السلطة بيد الدولة تغدو موضع انتقاد، ذلك إن السلطة، من منظور فوكو، لا مركز لها، والدولة ليست رأس الهرم في السلطة، بل أن الدولة "حصيلة لمجموع الدواليب والبؤر والآليات الشغالة في الحقل الاجتماعي بلا هوادة".

اقرأ/ي أيضًا: اغتيال العقلانية العربية

ولا نجد في نظرية هذا الفيلسوف مكانًا لنمط الإنتاج وتأثير هذا الأخير في تشكيل السلطة، ذلك إن نمط الإنتاج لا يكفي لتنظيم الأيدي العاملة لولا تقنيات التأديب وإجراءات الانضباط ووسائل المراقبة. فالمجتمع العراقي، على سبيل المثال، وباستثناء الفئات المعارضة، يتحرك فيه الكثير من الناخبين وفي أعماقهم تقنيات المراقبة والتأديب، لا بل التأثيم؛ فالذهاب والحج إلى صندوق الاقتراع يمثل رمزية لا يستهان بها في ذهنية الكثير من الناخبين وهم يتوّجون قادتهم، أو من أوصى بهم قادتهم لتسلّم السلطة.

 يمكن لفتوى من فقيه أن تحدد مسار الأمور، والتجاوب مع الفتوى يجري ضمن سياق الآليات التي ذكرناها. ذلك أن الأوامر السلطوية تأتي في كثير من الأحيان من المجتمع ذاته. يقول فوكو إن "تلك الأوامر المختومة التي كان ملوك فرنسا يصدرونها بطلب من النبلاء والآباء وأولياء الأمر ورجال الدين وكل من يرغبون في حبس من يثير قلقهم ويزعج راحة بالهم، كانت لا تتوجه بالضرورة من أعلى إلى أسفل، بل كانت استجابة لطلب يصعد من أسفل إلى أعلى".

وقد يطالب المجتمع بالحد من الحريات رافعًا هذا الطلب إلى ممثليه في السلطة التشريعية، وبالمقابل يتحرك المشرع لتثبيت بعض المواد القانونية التي تتصل بالشرع مجاملة لسلطة الناخبين وميولهم الدينية. كلنا نتذكر التظاهرات العنيفة التي حدثت في موريتانيا عام 2014 تنديدًا بالشاب الموريتاني محمد ولد مخيطر واتهامه بالإساءة لنبي الإسلام. وقد جرى في وقتها مطالبة المتظاهرين لمحكمة الجنايات الموريتانية بإنزال حكم الإعدام بهذا الشاب.

 لقد أصرّت قطاعات ليست قليلة في المجتمع المصري على تنصيب السيسي زعيمًا لها خوفًا من القادم!، وتم تنصيبه على أنه رجل المرحلة. وبالطبع أن تنصيب السيسي جاء لجهود سلطة الداخل والخارج.

إن معظم هذه الآليات لا تتم عن طريق الإكراه والقسر، وإنما تجري عن طيب خاطر!. باختصار: إن ما يجري في واقعنا السياسي هو نتيجة علاقة متبادلة ومزدوجة للسلطة، نزولًا من هرم السلطة، وصعودًا من قاع المجتمع. فالسلطة هنا لا ترتكز في الهرم، وإنما متغلغلة فينا، حسب فوكو، ونحن لسنا أبرياء من هذا الجانب، فالهرم شيّدته سواعدنا والأوامر متبادلة فيما بيننا. فالسلطة مفعول لا فاعل ونتيجة لا مقدمة تسهم في فاعليتها كثير من فئات المجتمع، ما عدا الفئات المقاومة للسلطة التي تحاول قدر الإمكان تعطيل آليات الاستبداد.

ما يجري في واقعنا السياسي هو نتيجة علاقة متبادلة ومزدوجة للسلطة، نزولًا من هرم السلطة، وصعودًا من قاع المجتمع

 غير أن الاستبداد الذي تتدرع به الأغلبية أكثر صلابة؛ فهذه الأغلبية مستعدة للموت ولا تضحي بسلطتها التي لم تجلب لها شيئًا حتى الآن!.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

شرط الدولة المفقود عراقيًا

المجتمع هو السبب.. النقد لإنقاذ فشل السلطة!