في سلسلة حواراتي مع المرجع الديني السيد كمال الحيدري، تناولنا مواضيعًا كثيرة ومتشعّبة، لكن كان يجمعها محور واحد، هو قدّرة الدين على الحوار وتقبُّل المختلف، وقد دافع الرجل عن إيمانه بامتلاك الدين هذه القدرة دفاعًا يثير الإعجاب حقًّا. ذلك أنه دفاع يتأسّس على رؤية ومنهج تختلفان عن السائد، وتطرحان إسلامًا معاصرًا ومنسجمًا مع روح الاختلاف ومبادئ الحوار، بل لقد وضع أسسًا متينة للموضوع. ومن يُحب يمكنه مراجعة الحلقة الأولى من السلسلة. وكنت أنا وبحكم دوري في الحوار أطرح ما يناقض رؤيته، ومما طرحته أن الأديان عمومًا، ومن أجل أن تَقْبَل الآخر، عليها أن تَخّلق النموذج الفرد الذي يمتلك القدرة على قبول الاختلاف، وهو ما بشّرت بصناعته ولم تستطع. هي جاءت لإصلاح المجتمعات القائمة على القمع لكنها عجزت عن إصلاح حتى القلَّة القليلة من الأفراد ممن سلّمتهم السلطة فمارسوا أبشع أنواع القمع.
كمال الحيدري الذي آمن ودافع عن قبول الإسلام للاختلاف يقع ضحية لعدم قبول اختلافه هو، فيوضع تحت الإقامة الجبرية ويُمنع من ممارسة نشاطاته
وجهة نظر الحيدري؛ أن لا أحد يُمثّل الدين، ومن ثمَّ فلا تجوز محاكمة الدين قياسًا على أخطاء الأفراد. ووجهة نظري أنَّ مشروع الإصلاح، الذي لا يستطيع أن يُصلح قادته ليتجسَّد عبرهم فيمثلونه، مشروع عاطل بالضرورة.
اقرأ/ي أيضًا: المواضيع الهامشية هي الحل!
مشركو قريش كانوا مجموعة كبيرة من الناس، لكن التاريخ لم يتحدث إلا عن ثلّة قليلة منهم، عن: أبو سفيان وأبو جهل (اسمه الأصلي أبو الحكم) وأبو لهب والوليد وغيرهم. والسؤال، لماذا ذكر هؤلاء فقط؟ الجواب لأنهم قمعوا النبي محمّد. حاولوا بكل الوسائل أن يعرقلوا نجاح دعوته. من وجهة نظرهم كانوا يدافعون عن دينهم كما يفعل سائر البشر، لكن الإسلام وعبر القرآن الكريم لم يرحمهم، انطلاقًا من قاعدة ذم القمع بغرض التأسيس لمجتمع يقبل المختلف ويحاوره. فهل تمكن الإسلام وعبر تاريخه الطويل من تأسيس هذا المجتمع؟
نعم، كان المختلف يعيش بذمّة الإسلام محميًّا، لكن بشرط عدم التبشير، أي عدم ممارسة الحق الذي طالب نبي الإسلام بممارسته وذمَّ مشركي قريش لأنهم حرموه منه واضطروه إلى اختيار المنفى! أليست هذه مفارقة محزنة؟
ها هو السيد الحيدري الذي آمن بـ، ودافع عن قبول الإسلام للاختلاف يقع ضحية لعدم قبول اختلافه هو، فيوضع تحت الإقامة الجبرية ويُمنع من ممارسة نشاطاته وعَقْد دروسه والقاء محاضراته! وإذا كان اختلافه الذي يدور داخل منظومة الإسلام غير مقبول، فكيف يمكن قبول الاختلاف من خارج المنظومة.
هذه المشكلة لا تقتصر على الأديان. بل هي مشكلة عامّة شاملة لكل أيديولوجيا تبشيرية. فكل فكرة من هذا القبيل تنطلق من قاعدة حقها بالاختلاف، ثم تطالب بحقها في أن تُعبِّر عن اختلافها، ثم وما أن تتمكن من السلطة، فإن أول ما تفعله هو سلب حق الآخرين بالاختلاف!
هل هناك شذوذ عن هذه القاعدة؟ ذكّروني رجاء.
كان الشيعة، وعلى مر تاريخهم يطالبون بأبسط حقوقهم فيحرمون منها. كانت مظلمتهم مختصرة بسلبهم حق التعبير عن ذاتهم. لكن للأسف وما أن تمكّنوا من السلطة حتى انقلبوا على هذه المظلمة. بل لقد برعوا بعملية قمع المختلف فسلبوه روحه قبل رأيه، ومن دون محاكمات شرعية أو قانونية، وهذه مفارقة مؤلمة جدًا.
وبالعودة إلى السيد الحيدري، فإن الوصول معه إلى هذا الحد يكشف أن الرجل غير قابل للاحتواء ولا المساومة، فهو صاحب مبدأ، وماض بوضوحه حدّ النهاية. أقصد؛ كان يمكن له أن يعترف بأن الأرض لا تدور حول الشمس فيُطلق سراحه، لكنه بدلًا عن ذلك اختار أن يتجرع كأس السُمّ قطرة قطرة. أنا مُعجب بهذا الرجل وحزين لأجله.
اقرأ/ي أيضًا:
عن العدالة والاستبداد في واقعنا العربي
هل يمكن بناء دولة في ظل ذاكرة تكره الديمقراطية؟