20-نوفمبر-2021

كان العراقيون يتمنون أن يأخذوا إجازة طويلة الأمد من القتل (فيسبوك)

لماذا يبدي أرباب السلطة الحالية كراهية شديدة لصدام حسين وحزب البعث، حتى أصبح هذا الأخير أحد  الهواجس الأساسية والتبريرات المُشرعَنة لكل سياسات الفشل التي عايشناها بعد سقوط البعث؟ يبدو هذا السؤال مغفلًا ومواربًا ويكتسي قدرًا لا بأس به من الحذلقة اللفظية، إذ لا يعقل تجاهل تاريخ البعث الدموي والحقبة السوداء التي بدأت معالمها من قاعة الخلد المشئومة؛ إذ استطاع صدام حسين من ابتلاع خصومة بطريقة وحشية خالية من الرحمة، وعلى أثرها تحول العراق إلى زنزانة كبيرة لا مكان فيها للمعارضين.

 لماذا يبدي أرباب السلطة الحالية كل هذه الكراهية لصدام حسين وتاريخ البعث وهم حتى هذه اللحظة لم يقدموا النموذج المغاير لهذا التاريخ الأسود؟

ثم توالت مسرحيات حزب البعث التكريتي بداية من قاعة الخلد المذكورة التي كرّسها لتصفية المقربين، ثمّ بتصفية خيرة شباب العراق بحجة التبعية لإيران والانتماء لحزب الدعوة، ووصولًا بحرب الأعوام الثمانية التي أحرقت الأخضر واليابس، ونهاية بأغبى حركة في التاريخ يمكن أن يقدم عليها شخص مخبول مثل صدام حسين وهي غزو الكويت، وما تلاها من تدخل عسكري من قبل التحالف الدولي، وتمخض على إثر ذلك قرارات مذلة ومشينة بحق صدام وزبانيته، وإحداها الحصار الاقتصادي الذي مزّق نسيج المجتمع العراقي. بعدها أعلن الأمريكان نهاية هذه الحقبة السوداء يوم دخلوا كمحتلين لاجتياح العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل، ولا زلنا نعيش هول هذه التداعيات المريرة حتى كتابة هذه السطور.

اقرأ/ي أيضًا: استدعاء الدكتاتور صدام حسين.. الحاجة إلى البطل!

وبهذا الاختزال والتكثيف يمكن أن ننفي شبهة الحمق أو الحذلقة التي تتبدّى من السؤال أعلاه. لكن علينا، والحال هذه، أن نحرك السؤال مرة أخرى عبر إعطاءه صيغة أكثر شمولًا لكي يغدو قابلًا للفهم بصورة أكثر وضوحًا. والسؤال على النحو التالي: لماذا يبدي أرباب السلطة الحالية كل هذه الكراهية لصدام حسين وتاريخ البعث وهم حتى هذه اللحظة لم يقدموا النموذج المغاير لهذا التاريخ الأسود؟ هل أصبح السؤال مغريًا للتفكير والتأمل أم لا زال يفتقر إلى معنى محكم وعميق؟

ولكي نحلل دوافع الكراهية علينا أن نستحضر نمطين من الشخصيات الكارهة إن صح التعبير: الأولى تنطلق من دوافع ذاتية محض ولا ترى أبعد من ذاتها وتغدو الظواهر الخارجية، أو الموضوعات، عبارة عن فرائس واقعة تحت رحمة شراك الذات، يعني أننا نكره انطلاقًا من عوامل شخصية لا علاقة لها بأي منطق موضوعي؛ أنا أكره هذا الشيء أو هذا الشخص انطلاقًا من ذاتي وكفى!

أما الثانية؛ فهي تنطلق من عوامل موضوعية محض؛ فهي لا تنطلق من عقد نفسية مريضة، ومتحررة بقدر واسع وكبير من الأحكام المسبقة؛ أنا أكره النظام السابق (أو لدي موقف) لأنه نظام قمعي بامتياز ولم يترك مساحة للحرية إلا وقمعها، وعلى أثره شهد العراق طاحونتين أحداهما حرب دامت ثمان سنوات والثانية اجتياح لدولة مسالمة، والنتيجة تهاوت عروش الديكتاتور بالتدريج بعد هذا الحدث الأخير.

إذن بعد هذا التوضيح السريع يتضح لنا المقدار الفاصل بين الاثنين؛ الأول يكره لعقده النفسية ولا ضمانات يمكنها أن تضع لنا حدًا فاصلًا بين الطرفين، أي بين الكاره والمكروه، فعلى الأرجح سيكون كلاهما يتشابهان بنفس المزايا. كل ما في الأمر أن الكاره لم تحن فرصته بعد، بتعبير أوضح، أن الضحية لم يجد الفرصة المواتية لإظهار دوافعه الخفية المماثلة لدوافع الجلاد بشكل عام. لكنّه ما أن تٌثنى له الوسادة ويستتبُّ له الأمر فربما سيقرّضنا بالمقاريض، أو على أقل تقدير سيتقمص شخصية الجلاد، وعلى أثره يتضح أن الكراهية التي كان يبديها صاحبنا هي في أحسن حالاتها ديكتاتورية مؤَجَّلَة حتى إشعار آخر.

لكن النمط الثاني من الكارهين (أو أصحاب المواقف) لا يكرهون، كما بينّا، لدواع شخصية؛ فعلى سبيل المثال، هم كرهوا صدام لأنه، باختصار، قذف بالعراق نحو المجهول. ولو قُدّر لهم الخوض في معترك السياسية، لعمروا البلاد وأنصفوا بين العباد. مؤكد أنهم سيقدمون النموذج المغاير: دولة عصرية، ورخاء اقتصادي، وسياسي، واجتماعي. أنا مثلًا، لقد حرمني صدام حسين من نعمة الأبوة، وبهذا الصدد كتبت مقالة بخصوص هذا الشأن، وكانت لي أمنيتان فحسب؛ أن تأخذ العدالة مجراها، وأن أرى نموذجًا جديدًا يختلف عن تاريخ الاستبداد الأسود، يوم كنّا لا نأمن على حياتنا، حيث يمكن لتقرير حزبي موجز أن يطيح بك حتى لو كنت بريئًا.

 كنت أحلم، أنا ومن يشاركني تلك الأمنيات (بعيدًا عن الانشغال عن دوافع الانتقام)، بدولة عصرية، ونظام سياسي ديمقراطي يحد من الطغيان، وبنىً تحتية، وطرق وجسور، ومشاهد عمرانية تليق بتاريخ العراق، وأن تعم الطمأنينة في قلوب كل العراقيين، وأن يحظى أطفالنا بتعليم جيد، وقبل كل هذا، أن ينتهي الموت في العراق، ولا يموت العراقيين إلا بحكم الشيخوخة أو الحوادث العرضية، وأن يأخذوا إجازة طويلة الأمد من القتل، والاغتيال، والاختطاف، والموت على الهوية، وقمع المعارضين والخ..

 كنت أحلم طوال حياتي بهذه الصور، وكنت أعتقد أننا قاب قوسين أو أدنى من هذا الحلم المشروع، لأنني، ببراءة طفولية بالغة، كنت أعتقد أن ضحايا الأمس كرهوا صدام حسين بدوافع موضوعية، وأنهم سيبرهنون للعالم أجمع ماذا يمكن للضحية أن تقدم من بدائل فيما لو تخلصت من براثن الجلاد، لكن لم يحدث ذلك كلّه، ذلك أنني استيقظت من أحلام اليقظة فوجدتُ نفسي أبحث عن سؤال آخر ظل يراودني دومًا: لماذا يكرهون صدام حسين يا ترى؟

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

صدام حسين.. الدكتاتور الذي يأبى الموت

عندما فجر جرح السيادة الحنين إلى صدام!