29-يناير-2022

النزاعات التي نشهدها الآن هي معركة يدفعها الشوق نحو السلطة (فيسبوك)

أبدت الأطراف السياسية الخاسرة حرصًا ملحوظًا على تكرار عبارة "البيت الشيعي" في كل سجالاتها السياسية. وهي تكافح ببسالة عزّ مثيلها في خلق تمايز جديد يعتمد على معيارية فئوية حادة، يكون فيها الطرف الخارج عن دائرة الإطار التنسيقي طرفًا لا ينتمي إلى البيت الشيعي. فثمّة "خصائص جوهرية" تميّز هذا البيت عن غيره، وأهم خصائصه هي المحاولات الرامية للتفرّد باسم التشيع السياسي كآلية دفاعية - يبدو أنها ضعيفة - للتعويض عن الخسران المبين الذي منيت به معظم القوى السياسية التي تشكّل قوام "البيت الشيعي"، فآخر الدفاعات هو استنفار الذاكرة المذهبية لما لها من حمولات عاطفية شديدة التأثير.

المحاولات الرامية لتعزيز نفوذ "البيت الشيعي" لا ترتقي إلى مستوى الترويج الإعلامي ولا تتمتع حتى بأي إثارة جماهيرية على الإطلاق

ويمكن القول أصبح هذا البيت ملاذًا للقوى الخاسرة، وليس لديه أي خيار آخرَ سوى الحفاظ على هذا التمايز، بدليل ثمّة أطراف شيعية خارج هذا البيت لا تتمتع بهذا التمايز كالكتلة الصدرية. وعادة ما تنحصر الجهود الرامية للتفاوض مع الصدريين بنقطة جوهرية وحساسة، وهي إرجاع الصدريين إلى البيت الشيعي، وإحدى دعائم هذا البيت هو التوافق وليس الأغلبية. وعادةً ما يُنظَر إلى الصدريينٌ، من قبل بعض القوى الشيعية، قبل هذه الانتخابات بطريقة لا تخلو من استعلاء، أما اليوم فالأمر مختلف للغاية.

اقرأ/ي أيضًا: تحول ديمقراطي أم حنين خفي للطغيان؟

 المهم في الأمر، إن المحاولات الرامية لتعزيز نفوذ هذا البيت لا ترتقي الى مستوى الترويج الإعلامي، ولا تتمتع حتى بأي إثارة جماهيرية على الإطلاق. ذلك أن الحواضن الشعبية مهما اختلفت توجهاتها، اتفقت بشكل غير مباشر على أن الحقوق هي النقطة الجوهرية لكل حماس جماهيري وإن تغطّى هذا الحماس في كثير من الأحيان بغطاء عقائديّ. حتى لو كان ثمّة حماس جماهيري يتّسم بنزعة عقائدية، فهو يوظّف هذا الشعار للحصول على مكاسب معينة، وليس المقصود منها التجديد الفقهي أو العقائدي بالتأكيد!

يُخَيَّلُ للسامع أنه ثمة خطر وشيك يهدد المذهب الشيعي ويصيبه بمقتل. ومعظمنا يعلم أن التشيع السياسي العراقي لا يملك هوية ورؤية سياسية واضحة المعالم  بخصوص بناء الدولة (على عكس  التشيع الإيراني). وإذا اعتمد على الجذور الفقهية فيما يخص الدولة فستكون مصيبة، لأن الدولة في الأدبيات الفقهية هي مجهولة المالك. ولا أدري إن كان سبب الفساد الحاصل يعتمد على هذه النظرة الفقهية. لكن، إن اختلفنا في الأسس الفقهية للدولة، لا أظننا سنختلف عن قيم العدل التي شدد عليها الإسلام بشقيه الشيعي والسني، ناهيك عن طريق الزهد والتقشّف الذي اتبعه الخلفاء في العصر الإسلامي الأول. فلا هذه ولا تلك طبعت سلوك الساسة المذهبيين، ولحد الآن لا نرى توظيف أخلاقي على الأقل للمفردات المذهبية سوى تسويق مُبتَذَل بنسخ مُشَوَّهَة ومشبوهة لا تحظى بقبول جماهيري، خصوصًا في الآونة الأخيرة.

 رغم كل المنعطفات التاريخية التي مر بها التشيع في العراق إلّا انه ظل مُتَوَارَثًَا، كفقه، وأصول، وعقائد، وطقوس، وما شابه ذلك. ونفس الكلام ينطبق على المذهب السني بالتأكيد. باختصار: ظل المذهبان الشيعي والسني متجاوران رغم التوترات التاريخية الحادة التي حدثت على خلفية التباين العقائدي الحاد في بعض الأصول الدينية. وسواء أكان عقائدي أصل التوتر أم سياسي، فبالنتيجة لكل مذهب أصوله التاريخية المعمول بها ضمن السياقات المعروفة، وأعني في المدارس الدينية، وبوصفه سلوك عبادي يلتزم به الفرد المؤمن بمعزل عن التسويق السياسي.

 وأثبتت لنا الوقائع التاريخية أن كلا المذهبين لا يلتزمان سياسيًا بأصولهما المذهبية في الوقت الراهن، ولا يتصارعان على أصل الخلافة! والإمامان جعفر بن محمد الصادق، وأبو حنفية النعمان في حلٍ من كل هذه التجاذبات السياسية الحاصلة الآن. فالأصل السياسي - الديني الذي تطاحن فيه الطرفان لقرون عديدة، لا علاقة له بالتجاذبات السياسية الراهنة، إلّا إذا قلنا بوجود أصل فقهي يبيح كل هذا الفساد والسرقات. فعبارة البيت الشيعي (أو البيت السني إن حدث في المستقبل) لا تعطينا دلالة كافية عن أصل المطلب، اللهم إلّا إذا كانت ذات حمولة دينية يراد منها توحيد المذهب الشيعي طبقًا للأصول العقائدية المحضة وبمعزل عن أي دوافع سياسية.

لكن حتى هذه اللحظة لا أحد يصرح بوجود أصول مذهبية واضحة لبناء الدولة وإدارتها من جهة، ولا أحد يصرح أيضًا بأن أصل الخلاف السياسي الراهن نابع من جذور فقهية أو فقهية، فضلًا عن ذلك كله، أن أصحاب المذهب الواحد مختلفون فيما بينهم، وبالتأكيد أن هذا الأمر الذي هم فيه مختلفون، لا ينطلق من أصل عقائدي حول الخلافة. فالشيعة متفقون على أنه ينبغي بالخليفة أن يكون زاهدًا، عادلًا، ومعصومًا من كل عيب. ومؤكد أن البيت الشيعي لا يتحلّى بهذه الصفات، ولا يتبع خطاها، ولا يوجد لديه إطار سياسيّ مرسوم لهذا المبدأ، فهم منشغلون بقضايا أخرى تحقق الجدوى والغرض.

إذًا، أن الأصل الذي تطاحن عليه الطرفان (الخلافة) لا يحضر الآن كأصلٍ سياسيٍ مٌتَنازعٌ عليه، بل النزاعات التي نشهدها الآن، هي معركة يدفعها الشوق المحموم نحو السلطة بأي ثمن كان، حتى لو كان على حساب معاناة العراقيين بكل توجهاتهم. فكم سترتاح البلاد والعباد لو أبعد السياسيون المسميات المذهبية على ذلك الصراع، وتعاملوا بالمكشوف، بدلًا من الإساءة للمذهب الذي إليه ينتمون.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ديمقراطية السقيفة

في العراق: بين السياسة و"النُكتة" شعرة واحدة