19-مايو-2022
المحافظات

التقسيم الطائفي للمحافظات هو البنية التحتية السياسية للمحاصصة (تعبيرية/فيسبوك)

واحدة من حسنات الخدمة الإلزامية في العراق أنها فتحت إمكانات واسعة للتواصل مع أبناء المحافظات الأخرى. ولا يخلو عراقي من قاعدة بيانات عامة حول طبائع العراقيين التي وفرتها له خدمته العسكرية. دع عنك تفضيلات النظام السابق لفئات اجتماعية على أخرى وهيمنتها سياسيًا على باقي الفئات الأخرى. فبشكل عام شكلت الخدمة الإلزامية آنذاك بديلًا مهمًا للعلاقات الاجتماعية في بلد لا يتمتع بطرق مواصلات حديثة (كقطارات المترو وغيرها) وعلاقات اقتصادية متنوعة تربط محافظات العراق بعضها ببعض.

المحافظات العراقية عبارة عن جغرافية طائفية موزعة إداريًا بشكل منتظم

 يقتصر الأمر بشكل عام على مجموعة من المزارعين تتحدد وظائفهم وأنشطتهم التجارية في مراكز بيع الفواكه والخضار في العاصمة بغداد. من النادر جدًا أن تعثر على تبادل تجاري واسع النطاق يربط هذه المحافظات، ولا خارطة صناعية واضحة المعالم، ولا محاولات جادة تقلل الفوارق بين الريف والمدينة لكي تسهم في تقليل التفاوتات الاجتماعية، ومن ثم تضغف من حدة التشبث بالهويات الفرعية، ذلك أنّ الصناعة، والزراعة، والتجارة، ومختلف الأنشطة الاقتصادية، تعزز ذلك الدور الريادي الذي يضعف الإغراءات المذهبية بشكل كبير، وكلما اتسعت دائرة الرفاه وما تقدمه من حوافز مهمة ومغرية ستضعف من الجانب الآخر السياجات المذهبية والقبلية.

 على كل حال، باستثناء سوق الخضار! وفي ظل غياب الحوافز المذكورة أعلاه، من المتعذر بروز علاقات اجتماعية واضحة المعالم بين سكنة المحافظات، وستبقى الأساطير المذهبية هي الحافز الوحيد الذي يغذي مخيالنا الاجتماعي والسياسي، وستكون التقسيمات الطائفية والعرقية السياج الآمن لمختلف محافظات العراق؛ محافظات سنية وأخرى شيعية. يمكنك أن تسأل ابن العمارة عن ابن الرمادي، ستكون أجوبته، على الأغلب، ضبابية وغامضة.

 حين تسمع عراقيًا من محافظة الرمادي فستحدد هويته المذهبية فورًا، وكذلك الأمر مع النجفيين وسواهم. يمكنك أن تحدد الهوية المذهبية لـ"أقاليم كاملة" مثل محافظات الجنوب والوسط، وينطبق الأمر كذلك على محافظات الشمال. العراقيون لا يعرفون أنفسهم طبقيًا ولا يندرجون ضمن المعجم الاجتماعي أو السياسي الحديث، بل معظم هذه المفاهيم الحديثة تشكل جرحًا نرجسيًا غائرًا لدى فئات ليست بالقليلة، فاستبدال الهويات الفرعية بقانون المواطنة مثلًا يشكل تهديدًا وجوديًا لتجار المذاهب، ليس فقط لهؤلاء بل للقطعان الانتخابية كذلك.

باختصار، المحافظات العراقية عبارة عن جغرافية طائفية موزعة إداريًا بشكل منتظم! إنها معسكرات طائفية كئيبة عصية على التنوع الاجتماعي، لا تتمتع بعلاقات صحية، ولا يمكن تعريفها طبقًا للعلاقات الحديثة القائمة على قانون المواطنة. من هذه الناحية يعتبر هذا التقسيم الطائفي لمحافظات العراق هو البنية التحتية السياسية لنظام المحاصصة الطائفية، والخزان الذي يغترف منه الفاسدون أساطيرهم الطائفية.

زد على ذلك الجانب القبلي؛ فما بين القبيلة والمذهب وشائج تاريخية حميمة وعلاقة اعتمادية يكمل من خلالها أحدهما الآخر؛ لا المذهب يصطدم مع القبيلة ولا هذه الأخيرة تصطدم مع المذهب، إذ يشكل كل منهما المادة الخصبة والنواة الأولى للمجتمع التقليدي. صحيح أن التضامن القبلي عابر، نسبيًا، للحدود المذهبية، لكن بشكل عام ينصهر الاثنان في المنعطفات السياسية، إذ يصعب تصور قبيلة سنية، مثلًا، أن تترك موقعها المذهبي وتغرد خارج السرب وترتمي في أحضان سياسيين شيعة، مثلما يندر العثور على قبيلة شيعية تقوم بأمر مماثل.

يعتبر التقسيم الطائفي لمحافظات العراق هو البنية التحتية السياسية لنظام المحاصصة الطائفية

بهذا المعنى قد لا ننتظر "من العروبة" دورًا بارزًا في العراق لصهر الهويات الفرعية في بوتقة قومية متماسكة، ذلك أن شعور الوحدة القومية في العراق لا يندرج ضمن الدوافع الأساسية التي تحرك الوعي السياسي والاجتماعي العراقي، ونحن نعلم جيدًا ما من ديمقراطية حقيقية ونظام سياسي مستقر ما لم تتضح معالم الوحدة القومية في البلد، غير أن عموم العراقيين لا زالوا تتملكهم الخشية من وثبة سياسية تصحح كل هذه المشاكل العويصة بالتدريج، فالارتماء في حضن القبيلة والمذهب أسلم، والتخندق داخل الحدود الإدارية للمحافظات الموزعة مذهبيًا أهون من أحلام المواطنة المزعجة.