02-سبتمبر-2019

لم تستخدم الحكومات المتعاقبة في العراق الرموز الثقافية والسياسية الجامعة بين العراقيين (AFP)

لا شك أن الكثير منّا استمع إلى بعض السرديات الطريفة التي يتبادلها سكّان المحافظات العراقية فيما بينهم. والطريف في الأمر، وعلى الرغم من العلاقات الاجتماعية بشكل عام، وبعض الصِلات القرابية بين تلك المحافظات، ظلت السرديات الطائفية هي الأبرز في تصوّرات أهلها في تقييم الآخر. ولهذه التصورات جذور متأصلة في الذاكرة العراقية سنبينها بعد قليل.

"لعنة" الديموغرافيا حوّلت  المحافظات إلى "غيتوات" اصطنعت لها حواجز وهمية، كانت من أشد العوامل تكريسًا للانقسامات الحادة التي يشهدها العراق سياسيًا واجتماعيًا

  سألني أحد أصدقائي ذي الجذور السنية عن تفاصيل الصلاة التي يؤديها الشيعة، وهل حقًا تختلف في الجوهر عن صلاة السنة؟ وصديق آخر وجه لي سؤالًا مماثلًا عن بعض "الغرائبيات" التي شاهدها عن الحجّاج الشيعة في مكة.. وهذه المرة كان السائل يسكن مدينة ذات أغلبية شيعية. وفي أيام خدمتي العسكرية كانت الأسئلة "السرية" التي وجهها لي بعض الأصدقاء، ارتكزت على هذا الموضوع: من هم الشيعة، ما هي عقائدهم، كيف يعيشون.. وكنت أتصور أصدقائي كما لو أنهم يتكلمون عن الزومبي!

اقرأ/ي أيضًا: متى ينكسر جسر "الشروكَية"؟!

بالطبع لا يهم هنا السرد التاريخي لعقائد الطائفتين (فهذه مرثية بحد ذاتها!)، وإنما المهم هو انعكاساتها السياسية والاجتماعية، وما سبّبته "لعنة" الديموغرافيا التي حولت المحافظات إلى "غيتوات" اصطنعت لها حواجز وهمية، كانت من أشد العوامل تكريسًا للانقسامات الحادة التي يشهدها العراق سياسيًا واجتماعيًا، وأحد العناصر الرئيسية في عملية الإقصاء المتبادل. فمن يسمع هذه الأساطير المتبادلة يُخَيَّل إليه ثمّة شعوب مختلفة وهويات متباينة تتبادل فيما بينها جملة من الأساطير القومية. وربما سيخرج بنتيجة مفادها: إن هناك شعب سني وآخر شيعي. إذ يتبادل سكّان المحافظات العراقية جملة من الأساطير الطائفية، و التصورات النابعة من انعدام الثقة فيما بينهم، سببتها لهم ذاكرة سياسية مضطربة. ليس هذا فحسب، بل حتى أبناء العاصمة؛ فقد تجد مناطق سكنية مختلطة بين الطائفتين، لكنهم يجهلون عقائد بعضهم! لا علاقة لاحترام الخصوصيات بهذه الظاهرة، وإنما له علاقة بالنظرة الريبية المتبادلة بين "شركاء" الوطن.

إن المنبع الأساسي في تعزيز هذه النظرة، هو قوة الطائفية السياسية التي غيّبت الكثير من الحقائق فيما بينهم، بالإضافة إلى الإسهام منقطع النظير بتعميق هذه السلطة، هو تلك المحافظات أو الجزر المنفصلة، والموزعة على أساس طائفي. بكلمة واحدة: ذاكرة سياسية وديموغرافية تعانيان من تورّمات طائفية.

 ثم جاءت اليوم القوى السياسية الشيعية لتكرّس سلطة الأمس الغاشمة، وتضاعف الأسى بين أبناء البلد والواحد، وتحاكي نسختها السنية السالفة بمنطق" كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا"، عبر استدعاء الطائفية السياسية من جديد.

إذن: فهاتان المقدمتان، أعني الذاكرة السياسية والطائفية، هما بمنزلة البارود لأي قنبلة مستقبلية. فالعراق من هذه الناحية بركان يغلي، لا ندري في أي لحظة يتفجّر، لأن المقدمتين أعلاه تسهمان في تفشي الأساطير بدلًا من الحقائق، وتعززان من القمع المتبادل بدلًا من التسامح.

 إن الثقة بين العراقيين شبه معدومة، وتصل القطيعة أقصاها حينما يختلفون على البداهات، ذلك إن ما يحركهم هو ثقافة الضد والثأر وردات الفعل وانعدام التسامح، كما لو أنهم شعوب متنافرة. وعلى الرغم من الحيف الذي طال الطائفتين لكنهما مصرتان على التمسك بنخبهم السياسية الفاسدة، التي تعتاش على تحفيز ذاكرة التخوين المتبادل.

 لا نجد أثرًا بارزًا للطائفية الاجتماعية، فهي غير موجودة بشكل عام، وإنما تُجدِد حضورها عبر تحفيز الطائفية السياسية فحسب

 ماذا لو دخل ابن محافظة غربية إلى محافظة جنوبية والعكس صحيح؟ لا أظن أنه سيشعر بانتماء لهذه المحافظة أو تلك!، كما لو أنه غريب في وطنه. لا أعني أنه سيتعرّض للردع أو الطرد والإقصاء، وإنما الوضع المضطرب الذي ساقته تلك الأسباب،  يجعل الأواصر الاجتماعية شبه معدومة.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا فعل "شيعة السلطة"؟

يحق لنا أن نسأل هذا السؤال: ما الآصرة الحقيقية التي تجمع بين ابن محافظة الأنبار وابن محافظة ميسان، بين ابن محافظة بابل وابن محافظة صلاح الدين،  بين محافظة ديالى ومحافظة النجف أو كربلاء؟ في الحقيقة لا شيء سوى السرديات المزيفة والصراع على السلطة بآليات طائفية! نعم، توجد بعض الأواصر القرابية، لكنّها لم تؤثر كثيرًا على سير العلاقات الاجتماعية والنظرة الارتيابية التي يتبادلها أبناء البلد الواحد.

 لا نجد أثرًا بارزًا للطائفية الاجتماعية، فهي غير موجودة بشكل عام، وإنما تُجدِد حضورها عبر تحفيز الطائفية السياسية فحسب، فمن هنا تجد بعض العلاقات الاجتماعية المتينة والزيجات المنتشرة بين الطرفين، لكنها تفشل في تفكيك الغوامض الطائفية فيما بينهم، وتفشل كذلك - وهذا هو المهم- في تعزيز الهم السياسي المشترك. فكل العلاقات الصحية منعدمة في ظل هذه "اللعنة" السياسية والديموغرافية التي حلّت على العراق.

إن المصير المشترك يمكنه أن يجمع شتات هذا البلد، شريطة أن لا يكون مصيرًا مشحونًا بـ"الهذيانات العاطفية"، وإنما بسلسلة مصالح اقتصادية مشتركة، وسوق داخلية يجري من خلالها ربط محافظات العراق كافة من خلال قطاعات اقتصادية مختلفة. ويبرز لنا، في المستقبل، مجتمعًا يعي مصالحه المشتركة، ومعافى من الأمراض الطائفية.

من جهة ثانية ينبغي ربط محافظات العراق بشبكة من الطرق والمواصلات الحديثة، وبالخصوص شبكات المترو فائقة السرعة، فهذه الإجراءات كفيلة بتذويب الفواصل العميقة بين سكّان المحافظات، بالإضافة إلى تشريع قانون المواطنة، فبدونه ستبقى هذه الإشكالية شاخصة وبقوّة تهدد السلم المجتمعي في العراق، وهي أشبه بالقنبلة الموقوتة تهدد أي إمكانية للنهوض بواقع البلد. فالشعارات الطنّانة لا تسعفنا إن كانت حبرًا على ورق، ما لم تسبقها حركة اقتصادية وسياسية مدعومة بقوة المواطنة، وخلافه قد يبقى هذا البلد محكومًا بجزر منفصلة في عرض المحيط، لا "يجمعها" سوى تاريخ سياسي حافل بالويلات.

قد تجد مناطق سكنية مختلطة بين الطائفتين في بغداد، لكنهم يجهلون عقائد بعضهم، ولا علاقة لاحترام الخصوصيات بهذه الظاهرة، وإنما له علاقة بالنظرة الريبية المتبادلة

لكن هل هناك نخبة سياسية مستنيرة تتحلى بالنزاهة يمكن مخاطبتها لكي تأخذ هذا الأمر على محمل الجد، ومن ثمّ تستجيب لهذا التحدي؟.. لا بأس، فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قصة الدولة في العراق: ذلك السؤال الغائب

شرط الدولة المفقود عراقيًا