يزداد استحداث المناصب واختراعها في عراق ما بعد 2003 بأشكال مبالغ بها، وبمرور السنوات أصبحت هناك جيوش من المستشارين في الرئاسات الثلاث والهيئات والأوقاف والوزارات، فضلًا عن مجالس المحافظات بدرجة وكيل وزير"درجة خاصّة"، وكثير ما تأتي تلك المناصب تعويضًا لعزيز كُتلة سياسية أذلته صناديق الاقتراع، وبدل أن يجلس في بيته بعد خسارة انتخابية كبرى يتسنم مناصب أخرى، مما يؤدي إلى مضاعفة عدد المستشارين بعد كل حكومة جديدة.
تقول الإحصائيات إن 73% من نواب البرلمان السابقين غادروه في انتخابات 2018 الأمر الذي يجعل أحزابهم ترسلهم كمستشارين في الرئاسات الثلاث والوزارات
وبما أن انتخابات أيار/ مايو 2018، كانت هي الأكثر خسارة للنواب القدامى، بحسب الإحصائيات التي تشير إلى أن 73.4% من نواب البرلمان السابق غادروه ولم يمنحهم الناس الأصوات التي فازوا بها سابقًا، يرى مطلعون أن عدد المستشارين أصبح مهولًا مقارنة بالسنوات التي أعقبت انتخابات نيسان/ أبريل 2014.
اقرأ/ي أيضًا: آخر مسرحيات خاسري الانتخابات العراقية.. "الشعب الأحمق لم يخترنا"!
ومثلت الدرجات الخاصة ممرًا للظفر بموارد مالية جديدة للأحزاب، وكثير ما تكون فوق "البيعة"، حيث يتنازل حزب عن وزارة مهمّة، مقابل وزارة مواردها أقل ليُمنح عددًا من الدرجات الخاصّة، الأمر الذي رآه سياسيون مطلعون أن الكثير من الكتل تعمل على استلام المناصب "الناعمة" في مراكز القرار لضمان تمثيلهم سياسيًا واقتصاديًا بما يخص المشاريع وتوزيعها.
فراغ قانوني
لا يمكن للقانون أن يشرع كل ما يتعلّق بمفاصل الإدارة، خاصّة وأن هناك إجراءات تنظيمية تقع مسؤوليتها على عاتق الجهة ذات العلاقة من خلال أصدار تعليمات بشأنها أو العمل على إعداد مسودة قانون ورفعه إلى مجلس النواب، بحسب مختصين، فيما تركت الكتل السياسية استحداث الدرجات متاحًا ليكون زورق الأمان لشواطئ "التسويات السياسية".
بهذا الصدد يقول الخبير القانوني طارق حرب، إنه "لا يوجد قانون ينظم تعيين المستشارين، فيما يترك الأمر لتقدير الجهة ذات العلاقة، خاصّة فيما يتعلّق بشروط المستشار من حيث العمر والخدمة والشهادة الجامعية" لافتًا إلى أنه "كان هناك قانون الملاك سابقًا يحدّد شروط المستشار مثل الخدمة والتي لا تقل عن 20 عامًا، وأن يكون على الملاك، فضلًا عن الشهادة وشروط أخرى".
أضاف حرب في حديثه لـ"ألترا عراق"، أن "عدم وجود قانون ينظم ترك الباب مفتوحًا لإنشاء جيش من المستشارين حتى وصل الحال إلى اعتبار منصب المستشار "تعويض" لبعض القيادات بعد خسارتهم لمقاعدهم النيابية"، مشيرًا إلى "ضرورة إلغاء قانون الملاك السابق رقم 25 لسنة 1965 وإصدار قانون ينظم ملاك الدولة ككل، موضحًا أن "هنالك مجالس محافظات فيها مدير عام واحد وأخرى أكثر بالإضافة إلى عدم معرفة عدد مستشاري الإقليم والرئاسات".
أشار حرب، إلى أن "قانون مجلس الخدمة الاتحادي يعالج هذا الموضوع من حيث العدد و وشروط والمجالات التي تستحق مستشار، إذ تمتلك المؤسسات أعدادًا كبيرة من المستشارين مثل مجالس المحافظات والهيئات المستقلة وغير المستقلة والأوقاف"، مبينًا أن "قانون الموازنة يرصد المبالغ للجهات الحكومية دون تحديد آلية الصرف مما يمنح الجهات حرية التعيين، حتى وصل عدد الدرجات الخاصة إلى أكثر من 4000 آلاف درجة".
يتمتع المستشار بمخصّصات وكيل وزير فيما يعمدون لأغراض التقاعد إلى احتساب خدمتهم في الجيش والدرجات الخاصّة لتكون 15 عامًا بينما خدمتهم الفعلية ثلاث سنوات
وتابع حرب، أن "المستشار يتمتع بمخصصات وكيل وزير ولأغراض التقاعد، حيث يعمد بعض المستشارين إلى احتساب خدمتهم في الجيش، بالإضافة إلى خدمتهم في الدرجة الخاصّة للوصول إلى خدمة 15 السنة والتي حددها القانون للتقاعد، فيما لا تتجاوز الخدمة الفعلية 3 سنوات أحيانًا، ليتم احتساب مخصّصات تقاعدية بدرجة وكيل وزير".
اقرأ/ي أيضًا: 20 قصة فساد.. كيف ضاعت 500 مليار دولار في العراق؟
فيما تظهر وثيقة أطلع عليها "الترا عراق"، رواتب المستشارين والمدراء العامين في مجلس النواب لشهر تشرين الأول/ أكتوبر 2015، ويتقاضى بحسب الوثيقة مستشارو مجلس النواب رواتبًا لا تقل عن 9 ملاين دينار عراقي، وجاءت هذه الرواتب بعد تخفيضات قامت بها حكومة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي.
سياسة الاسترضاء
لا يوجد نمط إدارة محدّد يحكم إيقاع العمل الحكومي، فصناعة فريق قوي لبناء دولة مؤسسات لا يمكن تحقيقه من خلال الرضوخ إلى سياسة الاسترضاء والتوزيع "المحاصصاتي" بين الأحزاب، والتي تتجلى أبرز معالمها في تحويل الرئاسات الثلاث إلى ملتقى للمتقاعدين ممن ماتوا سياسيًا، وزراء ونواب سابقين، فضلًا عن أعضاء مكاتب سياسية لبعض الأحزاب.
رئيس مركز التفكير السياسي، احسان الشمري، يقول، إنه "يوجد مستويين من المستشارين، الأول يحضر مع الرئيس في الاجتماعات والمباحثات، وهذا يتم اختياره من خلال الرئيس حصرًا ضمن فريق المستشارين الخاص، وهم عادة يكونوا بدرجات خاصّة"، مضيفًا أن "المستوى الثاني؛ المستشارين بصفة عقد أو درجة خاصة، أو ممن هم مثبتون على الملاك ويتمتعون بتراكم الخبرة والخدمة".
أضاف الشمري في حديثه لـ"ألترا عراق"، أنه "لا يوجد سقف محدّد للمستشارين على مستوى الرئاسات، الأمر يتعلّق بالملفات التي تتبناها كل من الرئاسات"، مشيرًا إلى أنه "من الضروري أن ينظم ذلك بقانون خاص، وأن بعضهم متقاعدين من دوائرهم ولا يكلفوا الدولة مبالغ ضخمة".
في السياق ذاته، قال مصدر مطلع لـ"ألترا عراق"، إن "الكثير ممن لم يتمكنوا من الفوز في الانتخابات النيابية أو من لم يحتفظوا بمناصبهم التنفيذية أصرّت كتلهم على منحهم مناصب استشارية في الرئاسات الثلاثة"، مبينًا أن ذلك "يؤثر على عمل الدولة، خاصّة وأن معظمهم فشلوا في مناصبهم، فليس من الممكن أن يقدموا استشارات تقوّم العمل".
الكثير ممن لم يتمكنوا من الفوز بالانتخابات النيابية أو من لم يحتفظوا بمناصبهم التنفيذية أصرّت كتلهم على تعيينهم بمناصب استشارية في الرئاسات الثلاث
أضاف المصدر الذي طلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب سياسية، أن "النواب والوزراء يفضلون الرواتب التقاعدية المرتفعة، على رواتب المستشارين الذين خفضت رواتبهم في زمن إصلاحات رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي"، مشيرًا إلى أن "وجودهم في الرئاسات الثلاثة يمنحهم مخصّصات وحمايات، بالإضافة إلى بقاءهم ضمن دائرة التأثير والنفوذ، والتي تسهل عليهم العمل تحت غطاء قانون ما يمكنهم من القيام بتسهيلات كثيرة".
قوانين معطلة
يصطف في طابور القوانين المعطلة منذ 2017 قانون تنظيم عمل المستشارين، والذي يحدّد ويشترط أن لا يتجاوز عددهم 6 أشخاص في كل رئاسة، وفي حالة اقتضت الضرورة يسمح لكل وزارة أو جهة غير مرتبطة بوزارة أن تقوم بتعين ثلاثة مستشارين فقط، بينما يشترط القانون تعيين المستشار بمرسوم جمهوري، بعد موافقة مجلس النواب على توصية من الجهة المستفيدة.
ويحدّد القانون الشروط التي يجب توفرها في المستشار، أن "يكون حاصلًا على الشهادة الجامعية الأولية في مجال اختصاصه على الأقل، وتكون لديه خدمة فعلية وخبرة في مجال تخصصه مدّة لا تقل عـن "15" عامًا للحاصل على شهادة الدكتوراه، و18 عامًا للحاصل على شهادة الماجستير، و20 سنة للحاصل على شهادة البكالوريوس، على أن تكون بضمن هذه المدد خدمة وظيفية فعلية في مجال تخصّصه لا تقل عن خمس سنوات، بالإضافة إلى أن يكون مستمرًا في الخدمة ومشهودًا له بالكفاءة والنزاهة".
مصدر سياسي رفض الكشف عن اسمه، قال لـ"ألترا عراق"، إن "القوانين التي من شأنها أن تنال من مكتسبات الفرقاء، تأخذ دورها على رفوف الانتظار حتى يأكلها تراب الأيام، مشيرًا إلى أن "الجميع مستفيد من منصب المستشارين" لافتًا إلى أن "تشريع هذا القانون بحاجة إلى حشد نيابي يأخذ على عاتقه مهمة تمريره لأنه سيصطدم بجدار صلب من المعارضين المستفيدين".
القوانين التي تنال من مكتسبات الفرقاء تأخذ دورها على رفوف الانتظار لا يتقرّب منها أحد إلى أن يأكلها تراب الأيام
أضاف المصدر، أن "مسودة القانون المُعدّة تنفذ بأثر رجعي، مما يعني تقليص عدد المستشارين وخسارة كبيرة لنفوذ الأحزاب"، داعيًا المجلس الأعلى لمكافحة الفساد إلى "أخذ دوره في متابعة هذا الملف فيما يتعلّق بنثريات مكاتب المستشارين وأعداد الحماية والسيارات المخصّصة، فضلًا عن دورهم في إجراء الكثير من التسهيلات في أماكن عملهم".
أقرأ/ي أيضًا:
تشكيل مجلس أعلى لمكافحة الفساد بعد تصنيف العراق بين أكثر 13 دولة فاسدة