في مطلع التسعينيات جُرجرتُ من قاعة الامتحانات النهائية في دراستي الجامعية إلى تحقيق أمني مطوّل، بسبب لحيتي الكثّة، وتحت شبهة الانتماء إلى أحزاب إسلامية معارضة للنظام.
لم يكن لديّ من السياسة وقتها سوى الإحباط من فشل انتفاضة 1991 وتذمر دائم أنفثه في حلقات الأصدقاء من استبداد السلطة الديكتاتورية، وهو شيء كنت أشترك به مع ثلاثة أرباع العراقيين، ولكني خلال 12 عامًا تفصل ما بين انتفاضة 1991 وسقوط نظام صدام في 2003 عايشت تجارب صادمة تتعلّق بأصدقاء يتم اعتقالهم فجأة، ليختفوا أو يعذّبوا بأيدي رجال الأمن العامة، ليطلق سراحهم لاحقًا وهم في حالة يرثى لها.تخيّلنا أنّ زوال الديكتاتورية سيمنحنا جميعًا الحرية في التعبير عن هوياتنا وأن نعيش النمط الثقافي والاجتماعي المناسب لنا
ما سوى صديق واحد ذي توجّه يساري، فإنّ غالبية هؤلاء الأصدقاء كانوا إما متديّنين بإفراط وبشكل لافت، أو لديهم توجّه سياسي إسلامي. أحدهم كان زميلًا في الدراسة الجامعية وعرفت لاحقًا أنه اعتقل في يوم التحقيق المشؤوم معي، ولم نره بعد ذلك أبدًا!
كان جزءًا من الذاكرة المشتركة مع الكثير من الأصدقاء المثقفين هو تفاعلنا مع الأحداث والقضايا ذات المضمون المعارض لنظام صدام حسين، وأغلبها كانت أحداثًا إسلامية، وأتذكر أن صديقًا شيوعيًا كان يحمل أصدقاءه ليذهبوا للصلاة في جامع المحسن حيث كان وكلاء السيد محمد صادق الصدر يقيمون صلاة الجمعة، وظل مواظبًا على هذا الحضور كفعل سياسي وليس دينيًا، لأنه المتنفّس الوحيد الذي وجده هذا الصديق في ذلك الوقت للإعلان عن معارضته للنظام. واستمر بذلك حتى حدوث مجزرة جامع المحسن في شباط 1999.
كان هناك عنصران في هذا المناخ يحرّكنا كشباب؛ الأول هو معارضة النظام القائم بأي وسيلة، والثاني الشعور بقمع الهوية الثقافية الدينية الشيعية، وأن من حقّ من يعتنقها أن يعلن عنها، وكنّا نتصوّر، وإن بشكل ضبابي، أن مناخ الحرية السياسية المفترض، سيتيح هذه الحريّة للجميع؛ لأصدقائي الذين اعتقلوا بسبب تعبيرهم عن هويتهم الشيعية دينيًا وسياسيًا، ولي أنا ومن يشبهني، ممن نتحرّك تحت سماء هوية أوسع، رغم أننا ننطلق من حاضنة اجتماعية واحدة.
تخيّلنا أن زوال الديكتاتورية سيمنحنا جميعًا الحرية في التعبير عن هوياتنا، وأن نعيش النمط الثقافي والاجتماعي الذي نراه مناسبًا لنا. وكنّا، أنا وأمثالي، حتى لحظة سقوط نظام صدّام مناصرين إلى أبعد حدّ لحقّ المواطنين بالتعبير عن طقوسهم وممارساتهم الدينية. بل إن روايتي الأولى "البلد الجميل" تضمنت مادة كبيرة من الطقسيات الدينية الشيعية، وكنت أستعرضها في الرواية بوعي ودراية كنوعٍ من الردّ على التعتيم والتعمية التي تمارسها سلطة النظام.
ولكن ذلك المنظور ذا الصبغة الرومانسية تغيّر فجأة عشية سقوط نظام صدّام. فبعد شهر من ذلك توجّه الناس بعفوية ودون تخطيط إلى أول زيارة مليونية في أربعينية الإمام الحسين، سيرًا على الأقدام، في مشهد فاجأ الكثير من التغطيات التلفزيونية حول العالم، واعتبر إعلانًا عن الحرية الجديدة في العراق.
في الوقت نفسه لهذا "المشهد الرومانسي" كنّا نشاهد عبارات تُخطّ على الحيطان تتحدث عن الحرية بعد ثمانين سنة من الطغيان. وهي تختلف تمامًا عن الثلاثين سنة من الطغيان التي كنّا نتحدّث عنها في مجالسنا الخاصّة.
نحن نتحدّث عن زمن استبداد صدّام حسين، وهذه الشعارات كانت تتحدّث عن قضية طائفية ليس صدام سوى جزء منها؛ إنه زمن حكم الدولة العراقية الحديثة برمّتها.
كانت هناك في العمق رغبة بالانسلاخ من كلّ تراث الدولة العراقية من 1921 إلى 2003. وسرعان ما تُرجم هذا الانسلاخ تخريبًا تامًا لأسس الدولة ونهبًا لمقدراتها، ثم تحوّلت السرقات العشوائية صغيرة الشأن لأملاك الدولة الى منهج أكثر تنظيماً وسرّانية اعتمدته الكثير من التيارات السياسية الجديدة، ولم يبد أغلبها أي اهتمام ببناء الدولة أو الحفاظ على بقاياها على الأقل، وصار جزءٌ من أصدقائي الاسلاميين أعضاءً في أحزاب تؤمن بهويات خيالية فضفاضة لا علاقة لها بالهوية العراقية ولا بأسس بناء الدولة الحديثة. وبعد عقدين تقريبًا لا هم حافظوا على دولتنا العراقية ولا هم بنوا دولهم الإيديولوجية الخيالية.
صارت أغنيتنا التسعينية الرومانسية عن الثقافة الدينية الشعبية المقموعة ذات طعم مرّ في أفواهنا. ولم يعد أحدٌ يكترث بهذه الأغنية، لأنها تؤسس نفسها على مبدأ الحريات، الذي يشمل المتدين والإسلامي مع غيره من التنويعات الثقافية والسياسية والاجتماعية.
بدلًا من ذلك خضع المتديّن للابتزاز العاطفي الاسلامي، بل ودخل معه في تخادم اجتماعي سياسي، وصارا كلاهما شيئًا فشيئًا أكثر قسوة مع من يخالفهم في التوجّه، ولم تعد تنفع معهم أي أغنية رومانسية.
لقد حدث لي، في أكثر من مناسبة، أن رأيت صديقًا من أيام المحنة والقمع، منفوخًا ببدلته الأنيقة، وسيارته الحديثة ومرتبه العالي، يحرّك يديه خلال الحديث بما يشبه صورة أولئك البعثيين الذين حقّقوا معي قبل أكثر من عشرين سنة. بل وربما يتجرأ أحدهم، بعد التحوّل الحاد الذي حصل له، ليحاسبني على عدم إشادتي بـ"نضاله" ضد البعث!
في روايته العظيمة "مملكة هذا العالم" يصف إليخو كاربنتيير، حال بطل الرواية الكوبي الأفريقي، وكيف أنه أفنى حياته في النضال ضد سلطة البيض المستعمرين، حتى أنه نفي من بلده، ثم حين نال بلده الاستقلال وعاد متشوّقًا ليرى ما فعل رفاقه، تفاجأ مصدومًا حين رآهم يرتدون بدلات المستعمرين ذاتها، ويمارسون سلوكياته نفسها. لقد صاروا مستعمرين جدداً ببشرات سمراء ليس إلا!
إن الإنجاز الأبلغ الذي حقّقه ممثلو ثقافة اجتماعية تعرّضت لظلم شديد وقمع كبير أنهم حوّلوا كل تلك التضحيات المريرة إلى رماد، وصاروا مشابهين لقامعهم القديم، بل وزايدوا عليه في بعض الجوانب.
صارت أغنيتنا التسعينية الرومانسية عن الثقافة الدينية الشعبية المقموعة ذات طعم مرّ في أفواهنا
يكسر هذه الحدّة أن هناك من لا زال على "فطرته" الأولى. وقاوم إغراءات الاشتراك في غنائم الخراب. ومنهم صديقٌ في مدينة جنوبية قال لي في اتصال هاتفي قبل مدّة: إن المتصدّين لتمثيل هوياتنا المقموعة خرّبوا فرصّة المظلومين في أن يكونوا منصفين.