14-يوليو-2022
العهد الملكي

يكاد يندثر إرث الملوك في العراق بعد أكثر من 6 عقود من الأحداث الدامية

تتبادر إلى الأذهان صورة شاب أنيق مبتسم كلما دار الحديث عن آخر ملوك العراق. لكن نظام حكمه ظل مثارًا للجدل حتى بعد كلّ هذه العقود بين مؤيد يعتقد أنّ الأسرة الملكية كانت ستضمن للبلاد استقرارًا ورفاهًا وتطورًا منقطع النظير، ومعارض يحتج بصور تسلط "الباشوات" ومشاهد الفقر والحرمان لشريحة واسعة من العراقيين.

فقدت الأسرة الملكية في العراق آخر وريث سياسيّ لها بوفاة الشريف علي بن الحسين هذا العام 

الأمير فيصل

ومع كلّ الاتهامات التي توجه إلى النظام الملكي، لا يعترف منفذو "الانقلاب" أو "الثورة" بتخطيط مسبق للإجهاز على العائلة المالكة في الواقعة التي عرفت بـ "مجزرة قصر الرحاب"، ويعدّون ما جرى "تصرفًا فرديًا" أقدم عليه ضابط دون توجيه مسبق، ليفتح الباب أمام مشاهد دموية مستمرة منذ أكثر من ستة عقود.

بعد 64 عامًا، يكاد إرث العائلة المالكة يندثر، مع رحيل الأميرة بديعة بنت الملك علي، آخر أميرات الأسرة الملكية الهاشمية في العراق، ووفاة الشريف علي بن الحسين في آذار/مارس من هذا العام، في حين تبرز تمارا الداغستاني المقيمة في عمان حاليًا، كآخر شاهد على أحداث الليلة الأخيرة من عمر العرش الهاشمي، حيث تحتفظ ذاكرتها بالكثير عن لحظات الرعب وما أعقبها من تطورات.

"الترا عراق" أجرى مقابلة خاصة مع الداغستاني ابنة اللواء في جيش الملكي العراقي ومدبر خطتين للإطاحة بالحكم الجمهوري لم يكتب لهما النجاح.

1
تمارا الداغستاني


  • بين الرحاب والزهور، ماذا تحمل ذاكرتك عن العائلة المالكة؟

لم تجمعنا قرابة بالعائلة المالكة، لكن أمي نشأت مع الأميرات في قصر الرحاب مثل عائلة واحدة، وكان الوصي عبد الإله يمثل الأخ الكبير.

ليس في ذاكرتي الكثير عن قصر الزهور، رأيته آخر مرة في عمر 5 سنوات، قبل أن تنتقل العائلة المالكة إلى قصر الرحاب، بيت الأمير عبد الإله، وكان قصرًا بسيطًا وعاديًا جدًا.

  • كانت ليلة الرابع عشر من تموز "مخيفة".. ماذا جرى في آخر لقاء بالملك فيصل الثاني؟

أتذكر تلك الليلة جيدًا. كانت ليلة غريبة استعدت فيها العائلة المالكة للسفر إلى اسطنبول، كان للملك فيصل وخاله الوصي كلبين خاصين وأخرى للحراسة، وكانت جميعها تصيح بصوت مخيف يشبه إلى حد كبير نياح النساء. اعترض أحدها طريق الملك كأنّه حاول تحذيره من خطر محدق، حتى أنّ الوصي عبد الإله قال إنّ "الكلاب تبكي لعلمها بنيتنا السفر غدًا". لم تكن ليلة اعتيادية على الإطلاق.

1

وفي الساعات الأخيرة من تلك الليلة، وقف الملك فيصل على شرفة القصر، وتحدث عن منزله في الكرادة الذي كان قيد الإنشاء ليشهد زفاف الملك على الأميرة فاضلة، وكان متشوقًا جدًا إلى تلك اللحظة، لكنه لم يشهدها وتحول ذلك المنزل إلى "القصر الجمهوري".

  • ما سر الرسالة التي لم يرها سواك والملك؟ وماذا تضمنت؟

أتذكر تلك اللحظة، كنا نتابع عرضًا بهلوانيًا للأطفال في القصر، حيث اجتمع أفراد العائلة المالكة قرب شرفة القصر. كنت أجلس إلى جانب الملك فيصل عندما توقفت سيارة من نوع فولكسفاغن يستقلها رجل سلم رسالة وغادر.

نقل المراسل الرسالة فورًا إلى الملك. جذب انتباهي شعار ذهبي في أعلى غلاف الرسالة، لم تكن تتضمن صورة، بضع كلمات فقط كتبت باللغة الإنجليزية وبخط اليد. قرأتها دون قصد وجاء فيها: "احذر هذه الليلة". نهض الملك في حينها، ليريها للأمير عبد الإله، ثم همّ أنّ يتصل بالطيار الخاص ليجهز طائرة الرحيل، لكن الوصي لم يتعامل مع الأمر بجدية، نظرًا لتلقي العديد من التحذيرات من هذا النوع آنذاك، وطلب من الملك الهدوء ومواصلة السهرة قائلاً: "سمعنا هذا كثيرًا، تعال واجلس".

تروي الداغستاني لـ "الترا عراق" معلومات بعضها يكشف لأول مرة عن كواليس اللحظات الأخيرة من عمر العرش الملكي في العراق

وصلت الملك في الأيام التي سبقت تلك الليلة الكثير من التحذيرات، منها من المخابرات الإيرانية، والعاهل الأردني الراحل الملك حسين، ومدير الأمن في العهد الملكي بهجت العطية، ومدير الاستخبارات العسكرية أحمد مرعي، فضلاً عن جهات عدة أخرى. كان الملك فيصل على علم بأسماء الضباط وخطة للانقلاب، لكنه على الرغم من ذلك لم يأخذ الأمر بجدية واكتفى بطلب معلومات عن عبد الكريم قاسم أو "كرومي" كما كان يلقبه الباشا نوري السعيد.

88

حدث السعيد والدي غازي الداغستاني، الذي كان يشغل منصب معاون رئيس أركان الجيش في حكومة الملك فيصل الثاني الأخيرة، قبلها بأيام قائلاً: "يحكى أنّ ’ كرومي’ يريد أن يتأمر علينا". فأحضر والدي ملف عبد الكريم قاسم وأكّد أنّه "ضباط جيد"، فوافق حينها السعيد على إغلاق الملف.

  • مَن هو حامل رسالة التحذير الأخيرة ليلة الرابع عشر من تموز؟

لم أعلم حينها، لكن بعد سنوات دارت نقاشات طويلة حولها مع والدي حين خرج من السجن، وكان حريصًا على التحقق من مضمونها. وقبيل وفاته عام 1965، حتى حدث لقاء بينه وبين المحلق العسكري في السفارة الإيرانية حتى عام 1958 "بطمان قلج"، في منزلنا في لندن.

كان "قلج" صديقًا لوالدي، وقد أبلغه في ذلك اللقاء، أنّ البريطانيين كانوا على علم كامل بالانقلاب وكلّ ما يتعلق بالمؤامرة، إذ كانت جميع المخاطبات للسفارات والبعثات الدبلوماسية في العراق تمر عبر السفارة البريطانية. حينها أبلغه والدي بأمر الرسالة استنادًا إلى مشاهدتي، فعلق مبتسمًا بالقول: "هل تذكر رجل المخابرات البريطاني، ذلك الشاب الأسمر الذي يتحدث العربية والفارسية والتركية؟". وأضاف: "كان الرجل بمثابة صديق مقرب، وقد دخل عليّ قبل يومين من الانقلاب وعليه علامات الغضب والانزعاج، فعلمت منه أنّ شجارًا دار بينه وبين السفير البريطاني، حين تيقن من الأخير أنّ السفارة والحكومة البريطانية على علم بالانقلاب، وتلقى توجيهًا بعدم تحذير العائلة المالكة، مع تهديد بعقوبة شديدة في حال خالف ذلك".

تقول الداغستاني إنّ رجلاً على صلة بالمخابرات البريطانية هو من نقل رسالة التحذير الأخيرة إلى العائلة المالكة 

أصر رجل المخابرات البريطاني على نقل تحذير إلى العائلة المالكة، وفق الدبلوماسي الإيراني، لكنه لم يكشف عن اسمه.

99

ظلت هوية الرجل سرًا حتى عام 1996 حين تلقيت دعوة لحضور حفل توقيع كتاب عن والدي في لندن. حضرت حينها وكان الكاتب رجلاً بريطانيًا أسمر البشرة، يتحدث عن حياته في العراق إبان الحكم الملكي، ويجيد اللغات الثلاث التي أشار إليها الدبلوماسي الإيراني، فعلمت أنّه هو الذي كان داخل سيارة الفولكسفاغن في ليلة الرابع عشر من تموز وكان يدعى "سام فو".

  • ماذا عن صباح الرابع عشر من تموز عام 1958 والبيان رقم واحد؟

استيقظنا عند السادسة فجرًا، كان صوت خالتي يهز أرجاء منزلنا وهي تخبرنا أنّ إذاعة سرية تنقل أنباءً عن انقلاب وقتلى ومحكومين من العائلة المالكة وأفراد الحكومة، من بينهم والدي غازي الداغستاني. وكانت تضحك غير مصدقة.

بعدها بقليل تحوّل كل شيء إلى الأبد، وصل السائق الخاص بوالدي بأنباء مرعبة عما يجري في بغداد، وطلب منا المغادرة على الفور. خرجنا بسرعة اقترح جارنا محمد علي الجلبي أنّ نستقل سيارته، إذ كانت سيارة والدي معروفة للضباط. انطلقنا إلى منطقة الصليخ كانت السيارة تمشي ببطء بين حشود الناس التي تتفحصنا متلهفة للسحل.

عملنا بعدها أنّ الملك والوصي قتلا بملابس السفر، وكذلك الملكة نفيسة والدة عبد الإله بن علي، والأميرة عابدية بنت علي، والمرافق الأول للملك ويدعى ثابت، فيما أصيبت الأميرة هيام زوجة الوصي.

صورة من قصر الرحاب عقب مقتل العائلة المالكة
صورة من قصر الرحاب عقب مقتل العائلة المالكة 
88
مشهد من العاصمة بغداد عقب إعلان الإطاحة بالنظام الملكي العراقي

كان من بين الضحايا أيضًا طباخ تركي وعدد من الأطفال وفتاة تدعى "ميري" تعمل عند الملكة. تحدثت لاحقًا مع الأميرة هيام، الناجية من المجزرة، إذ أبلغتني أنّها كانت مع العائلة، لكن أحد الذين اقتحموا القصر عزلني، وفي تلك الأثناء خرج الملك والوصي وأفراد العائلة بعد أن تلقوا عهدًا بإخلاء آمن إلى المطار.

تؤكد الداغستاني مقتل الملك فيصل الثاني فورًا وتنفي الادعاءات حول نقله حيًا إلى المستشفى

وما أن التحقت بهم حتى تناثرت الدماء تحت وابل من الرصاص. قتل الملك والوصي فورًا، ما يشاع عن نقل الملك إلى المستشفى حيًا غير صحيح، حيث تروي الأميرة هيام أنّ رأس الملك تهشم وقد تناثر أجزاء منه على ثوبها وفارق الحياة في لحظتها.

  • ماذا في ذاكرتك عن زنزانة غازي محمد فاضل الداغستاني؟

كثير من الناس يتحدثون عن تعذيب طال والدي، هذا غير صحيح أيضًا. كان مسؤول السجن أنور الحديثي رجلاً محترمًا، تعامل مع السجناء من رجال العهد الملكي باحترام شديد، خاصة بما يتعلق بغازي الداغستاني طوال فترة احتجازه لعامين ونصف. زارنا بعد ذلك في منزلنا، وأخبر والدتي أنّه كان يعد خطة لتهريب السجناء في حال صدرت أوامر بإعدامهم.

3
اللواء الركن غازي الداغستاني يقف أمام محكمة العسكرية الإطاحة بالحكم الملكي

  • لماذا فشلت خطة الداغستاني للانقلاب على النظام الجمهوري في ستينيات القرن الماضي؟

أعد والدي الخطة بحرص شديد، لم تكن الأولى من نوعها، حاول أولاً في عام 1962 لكن الأمر فشل، فكرس سنواته الأخير لتطبيق أخرى محكمة بالتعاون مع ضباط وشخصيات حكومية. كان يفترض أن ينطلق الحراك من شمال البلاد في الحادي عشر من كانون الثاني/يناير عام 1966، لكن الأجل وافاه في ذلك اليوم وحال دون ذلك.

كان يتحدث كثيرًا عن تلك الثورة، ويصف المرشح لاستلام مقاليد الحكم بالذكي والمثقف، لكنه لم يبح بهويته. لاحقًا علمنا من أصدقائه أنّ المقصود هو برهان الدين باش أعيان الهاشمي، الذي قضى آخر سنوات حياته في السعودية، إذ كان يلتقي بوالدي بشكل يومي في تلك المرحلة.

  • علمنا أنّ للشريف علي ابن ذكر وحيد هو فيصل بن علي بن الحسين.. من يمثل العائلة المالكة في العراق الآن؟

فيصل بن علي شاب لا يتجاوز عمره الـ 26 عامًا، يقيم في أمريكا الجنوبية، ولا يرغب في العمل السياسي، ولا يمكن أنّ يلعب دور وريث للعائلة المالكة أو دورًا سياسيًا يتعلق بالعراق.

تؤكد الداغستاني أنّ المتقبين من سلالة العائلة المالكة لا يرغبون بالعمل السياسي بما يتعلق بالعراق

كما أنّ للشريف علي بن الحسين الذي تلقى معاملة سيئة من النظام الحاكم في العراق، أخوة أكبر، وهم أيضًا بدورهم لم ينخرطوا في العمل السياسي.

88
الشريف الراحل علي بن الحسين آخر وريث سياسي للعائلة المالكة

  • ما هو موقفك من احتجاجات تشرين العراقية في العام 2019؟

تفاعلت معها بشدة، رأيت في أولئك الشبان أبنائي. كنت خائفة من تعرضهم للقمع، ويعتصرني الألم لما طالهم. حلمي أنّ يحظوا بحياة حرة كريمة بعيدًا عن الموت والقتل والتهميش والإبعاد القسري، كما هو حال أقرانهم في دول الخليجية.