16-يناير-2020

لا أحد يمكنه إيقاف المد الصدري الصاعد (Getty)

إكرامًا للشهداء، ولاسترداد الحق الضائع لهم ولذويهم، ربما يكون الأفضل لشباب انتفاضة تشرين إعداد العدّة التنظيمية للمستقبل، ليكونوا، على الأقل، منافسين سياسيين للتيار الصدري. وأعني بالمنافسة هنا؛ الدخول في العمل السياسي وتمثيل الأغلبية الصامتة التي لم تنتخب الفاسدين، هذه الأغلبية التي تمثل صوت المعارضة الشعبية المرجوّة، وأن تكون لها حزب سياسي معارض يمثلها في البرلمان. إن الصدريين عازمون على تغطية الساحة الاحتجاجية من جديد، بجمهورهم الواسع والمُنَظّم والمطيع. وبالطبع لا يمكن لشباب الانتفاضة العثور على جمهور مطيع، وإنما بسعيهم السياسي الحثيث سيمثلّون الأغلبية الصامتة في المستقبل المتوسط على أقل تقدير.

 الصدريون جماعة عقائدية ممسوكة تمرّست سياسيًا وهي في صعود مستمر، وأيًّا كان نوع قانون الانتخابات الجديد سيصب في صالحهم وسنجدهم أمامنا في البرلمان

لا أحد يمكنه إيقاف المد الصدري الصاعد، ولا أحد يمكنه تقليص وجودهم في الساحة العراقية. وبالطبع هذه المقدمة ليست مدخلًا للاستسلام لتحديات الواقع، وإنما قراءته بعقلانية وواقعية، والابتعاد قدر الإمكان عن الصيغ الشعرية التي لا تجد لها مكانًا في الواقع، فتتخذ من التنمّر وسيلتها الوحيدة للتعبير عن رأيها في مواقع التواصل الاجتماعي.

اقرأ/ي أيضًا: التنظيم السياسي.. وقاية من الدكتاتورية المضادة

لو بقينا نتذمّر زمنًا طويلًا تجاه الصدريين، فمن وجهة نظري سيبقى كلامنا لا يقدم ولا يؤخر لماذا؟ لأنهم فصيل منظّم ويتمتع بقيادة هرمية تعمل طبقًا لمبدأ الطاعة. إنها جماعة عقائدية ممسوكة تمرّست سياسيًا وهي في صعود مستمر، وفي طور اكتساب خبرة سياسية ملحوظة، وأيًّا كان نوع قانون الانتخابات الجديد سيصب في صالحهم وسنجدهم أمامنا في البرلمان. فماذا تعتقدون، هل يمكن منافسة الصدريين بهذا التشرذم. المنظمون هم من يربح الرهان فحسب، أما الآخرون ليس لهم سوى الصراخ والشكوى والشعارات المتشنجّة. إن المشاركة في تحسين الواقع والدفع بالعملية السياسية إلى الأمام، هو بالتنظيم من أجل الوصول للسلطة ويبدأ التغيير من هناك، ما عدا ذلك فهو هدر للطاقة.

ما الذي كان يتوقعه معارضو التيار الصدري، هل سيقف الصدريون يتفرجون على إسقاطهم سياسيًا وشعبيًا، هذا إن كانت ثمّة قوة شعبية قادرة على لعب هذا الدور؟ في أوضاع سياسية مضطربة، وفصيل سياسي منظّم للغاية، ويتمتع بجهوزية عقائدية عالية، لا يمكنك أن تكتفي بتضخيم ذاتك وتتجاهل حجمك الحقيقي وسط تنظيمات سياسية تتسم بالطاعة والإخلاص لرموزها الدينية.

 إن الصراخ، وتضخيم الذات، والشعور بالأهمية، لا ينفع، وإنما النافع والمجدي هو العقلانية والحكمة، اللهم إلّا إذا جادل البعض أنه لا حكمة مع الجماعات المسلّحة، ويستشعر خطورة الصدريين، ويحاول تضخيم خطورتهم، فالمجادل يستثني نفسه مما نذكره هنا، إذ يمكنه أن يستبيح لنفسه ما يشاء، فمواقع التواصل الاجتماعي مفيدة للتنفيس عن المكبوت، أما في العمل السياسي فالأمر مختلف.

 المهم في الأمر، تدعونا الحكمة إلى تشخيص حالتنا المَرَضَية، والبحث عن السبل الممكنة لعلاجها، وإلّا الشعور بالتمييز والأهمية أكثر من الآخرين والشتائم بذات الوقت! لا تجعل منّا أصحاب قضية ولا تمنحنا مكاسب سياسية، بقدر ما تمنح الآخرين فجوة مجانية للدخول من خلالها. مؤكد أن هذا الكلام موجه للمهمومين بالعمل السياسي دون غيرهم.

 أسوأ ما يمكن أن تتعرض انتفاضة تشرين، هو فقدان البوصلة التنظيمية، وأن تنتهي بانفجارات جماهيرية تشتت معظم الجهود وتفرط بالتضحيات

قبل أيام أخبرني أحد الأصدقاء، من أن خيم المعتصمين أضحت "مقاهي للعاطلين عن العمل"، واختلفت معه في هذا التوصيف، وأوضحت له الإمكانات التي خلقتها هذه الانتفاضة؛ من المطالبة بالإصلاحات الديمقراطية، وصولًا بالإحساس الوطني، ونهاية بعبور الطائفية ورفض المحاصصة لدى الأجيال الجديدة. إن أسوأ ما يمكن أن تتعرض له هذه الانتفاضة، جادلت صديقي، هو فقدان البوصلة التنظيمية، وأن تنتهي بانفجارات جماهيرية تشتت معظم الجهود، وتفرّط بالتضحيات التي قدمتها.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين.. جيل اليوم في مواجهة النظام الطائفي

فبالتالي يمكن للتيار الصدري أن يتصدر هذه الانتفاضة باعتباره التيار الأكثر تنظيمًا في الساحة السياسية، بل هو أصلب تنظيم سياسي وعسكري في العراق نظرًا للميّزات التي سقناها قبل قليل. كل المؤشرات توحي بعناد التيار الصدري سياسيًا، وهو يقاوم بشراسة من أجل كسب الجولة، ويحاول جاهدًا من تحسين نوعية عمله السياسي، ويكافح بقوة لكي لا يبدو هدفًا لشعارات الانتفاضة ممسوكة بقيادته وجماهيره المطيعة.

شهدت بدايات التأسيس الأولى للحزب الشيوعي مخاضات مؤلمة، نتيجة نزاعات وانشقاقات، ما جعل قائد الحزب في تلك الفترة (فهد) يفكر ملياً في جدوى وجود أناس "أفلاطونيين" في دفّة القيادة. فاستبدلهم بأشخاص أكثر صلابة وواقعية، ينحدرون من أصول فلّاحية، ثم  أخذ بنفسه اختيار أعضاء المثقفين بعناية كبيرة، والأكثر استعدادًا من بينهم لإنجاز العمل، والأقل ولعًا بالجدل وهنا بيت القصيد! لقد برز هذا الحزب في فترة عصيبة للغاية، واستمر بالوجود لفترة طويلة لكونه الأكثر تنظيمًا ومسؤولية في وقته. إن السمة الأبرز لهذا الحزب هو عبوره حالة الثرثرة وانشغاله بقضايا التنظيم أولًا وقبل كل شيء. ومن إحدى مميزات فهد أنه لم ينشغل بقضايا تسفيه الدين، والدعوة إلى السفور بهذه الخفّة التي وقع بها قبله من المؤسسين الأوائل. العبرة من ذكر الحزب الشيوعي هو في تاريخه التنظيمي وقيادته الحكيمة وبنيانه الصلب آنذاك الذي مكّنه في أن يكون الحزب الأكثر تأثيرًا في تاريخ العراق، فهل يستطيع شبابنا أخذ العبرة من تاريخ هذا الحزب؟

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الحراك المضاد لانتفاضة تشرين

الصراع بين جيل الاستبداد وجيل الديمقراطية