31-يوليو-2020

كانت الجدران خير مأوى للمكبوتين عاطفيًا وسياسيًا (فيسبوك)

أتابع ما يكتب على الجدران كثيرًا وأقف عند الذين يمتلكون هذه الموهبة، التعبير العشوائي أو الكلام غير المزيّن، وبالرغم من الحديث حول "لا حضارية" هذا السلوك إلا أنه يمكن أن يكون صراخًا أو نضالًا ضد المسكوت عنه اجتماعيًا وسياسيًا، حيث لا يقتصر هذا الأمر على التنفيس العاطفي، أو التعبير عن المكبوت، بل يصل إلى حدود السياسة والاحتجاج، كما حدث في ثورات الربيع العربي التي وجد الشباب أن الجدران مع "فيسبوك" خير معبّر عن التحول التاريخي الذي يخوضون فيه بعد ركود سياسي طال لعقود.. وعلى سبيل المثال، كانت جملة "اجاك الدور يا دكتور" التي كتبها أطفال درعا في سوريا على جدار مدرسة قديمة ومتهالكة جزءًا مهمًا من بداية الثورة السورية ضد الاستبداد.

كان "نفق السعدون" في انتفاضة تشرين مضيئًا من أوله إلى آخره، كانت جدرانه المطرزة بالألوان والرسوم والكلمات معبرة عن اللحظة التي صنعها شباب العراق

مرة رأيت شابًا يكتب على جدار في مناطق شرق بغداد "ثورة ضد المحاصصة"، كانت هذه في احتجاجات 2015 ـ 2016، وحين سألته لم يكن يعرف عن الواقع كثيرًا، لكنه قال لي إن "المحاصصة طيّحت حظنا" مع كلمة بذيئة لا أستطيع أن أذكرها هنا لأني مقيد ولا أكتب على جدار حاليًا. لا زلت أرى هذه الجملة كلما مررت من المكان، وأتخيل أن هذا الشاب ربما وقع شهيدًا بين ضحايا تشرين، أو في الاحتجاجات العراقية السابقة.

اقرأ/ي أيضًا: أغاني الانتفاضة العراقية.. ألهبت الحماس وأعلنت رسائل الاحتجاج

في انتفاضة تشرين، كان "نفق السعدون"، مضيئًا من أوله إلى آخره، وكانت جدرانه المطرزة بالألوان والرسوم والكلمات معبّرة عن اللحظة التي صنعها الشباب، لحظتهم التي عبروا عنها مطالبًا وحزنًا ودمعةً على الشهداء الذين سقطوا بعد أكثر من 16 عامًا من الخراب الذي أعقب الغزو الأمريكي للبلاد. كنا في مساء تشريني، نتأمل الرسومات والكتابات في نفق السعدون، وقلت لصديق إن المتجول هنا يعتقد أن اتفاقًا حصل بين الفنانين والشباب ليظهر النفق بهذا التناسق والرسائل التي تبدو موحدة، لكنه كان عكس ذلك تمامًا، لعل الحدث كان واحدًا والمطالب جامعة، ولهذا ظهر بالصورة التي تبهر القادمين، من العراقيين والأجانب الذين زاروا النفق. ميزته أنه كان منبرًا حرًا للجميع، ليس فيه مراقبة أو إملاء من أي سلطة. تشعر أن الفنان أو الشاب العادي وجد حريته هنا غير المقيدة بالتصورات والحدود التقليدية.

أفكر أحيانًا في أن الكتابة على الجدران صحيح أنها تعبر عن المشاعر المكبوتة، وتظهر من القاع المعتم والغامض والذي ينتهي الكلام فيه بمجتمعاتنا، وهي أيضًا، مشاركة نفسية يحب الشخص فيها أن يرى الناس ما يدور في داخله لحاجته إلى التضامن، خاصة وأن هناك فكرة في أذهان الناس تقول إن الكتابة لن تموت، لكنها أيضًا، تشبه "فيسبوك" ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل عام. إذ أن الجدار يكون فضاءً حرًا لا يسأل فيه عن اسم ولا يتطلب حتى إتقان في الخط أو تدقيق فكري في صحة الفكرة المكتوبة من عدمها، هي هروب للذين لا يجدون مكانًا للصراخ ولا يفهمهم أحد، وربما يضحكون عليهم حين يتحدثون بمشاعرهم، أنهم يكتبون أنفسهم في واقع يغيّبون فيه قسرًا.. ما الذي يجعل شخصًا يقف في مرحاض عام لدقائق معدودة ويكتب ما يجول في خاطره؟

اقتصر التعبير سابقًا على ما يكتب في الصحف أو الكتب، وكانت الجدران خير مأوى للمكبوتين عاطفيًا وسياسيًا، والذين يمزجون بين الاثنين معًا. لا أنسى طوال حياتي الجملة التي قرأتها وحفظتها مباشرة حين كتب أحدهم على جدار "عيونك مثل الحكومة، لا عدل، لا رحمة، لا مساواة". لا تظل المشاعر هنا حبيسة النفس والتعبير الخجول بين صديق وآخر، هي كما تظهر في فيسبوك ومواقع أخرى، عفوية، وأحيانًا، تراها لا تقل جمالًا عن فن أو كتابة داخلة في الزخرفة اللفظية المستنسخة، بالرغم من "الثورات" التي يطلقها أدباء وغيرهم للحفاظ على حدود الأدب وقيوده، والالتزام بالخطوط العريضة لمعايير الكتابة. 

"فيسبوك" أخذ مكان الجدران، وصار مقهى التعبير السياسي والعاطفي دون معيار يفرض من هذا وذاك. أحزن أحيانًا بسبب السخرية من بعض كتابات الشباب الذين ليس لديهم القدرة الكافية على الاعتناء بالفكرة وإخراجها بصورة جيدة. هؤلاء لا يجدون غير هذه المواقع للتنفس من واقع يحكمه الاستبداد بأنواعه المختلفة في عراقنا وعالمنا العربي، سياسية ودينية وقبلية وثقافية.. الخ. هناك عالم آخر في "فيسبوك" غير عالمنا الذي نزينه بالثراء اللغوي والأدبي والمجاملات الثقافية في مديح بعضنا. عالم يكتب فيه شباب محاصرون في أوطانهم وعوائلهم وبيوتهم، ولا يجدون مساحة غير مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن شتى الضغوط التي يواجهونها والتي تعتبر من "العيب" أو الحرام"، وهو ما رأيته في انتفاضة تشرين بأحد الشباب الذي خاطب حبيبته من جدار في ساحة التحرير بالقول "شلعتي كلبي أنتي والعراق". قبل أيام رأيت جملة قريبة منها في "فيسبوك"، وتخيلت أن هذا الشاب نفسه الذي يطلق آلامه بين الناس وفي موقعنا الافتراضي الذي لا يخضع لسلطة رقيب أو حريص على اللياقة في التعبير.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مئات الكتب.. رسالة من الاحتجاجات إلى السياسيين

ديوان شعراء انتفاضة تشرين.. عودة الشعر بين الناس