"الحقيقة هي دائمًا أسوأ من أكثر نظريات المؤامرة تطرفًا!" جوزيف مسعد.
لا يمكنك الدخول التسجيل في عضوية هذا النادي ما لم تصادق على كل بنود نظامه الداخلي، وبخلافه ستكون هويتك البارزة لدى أعضائه هي "الرجعية"، حتى لو كانت ثنائية التقدم والتراجع لا تحظى بالتداول في هذا النادي. لا مكان رسمي يضم الأعضاء، ولا أزياء توحدهم؛ فهو نادٍ رمزيٍ يستلهم أفكاره لا من نماذج تفسيرية ليعتمد عليها كإطار مرجعي لتحليل الأحداث، بل يتخذ من التذمّر والعدمية، والوقوع تحت سموم الأفكار الدونية نقطة انطلاق له لـ"تحليل" الواقع. إنه يسقط ما يرغبه على حقيقة الأمور، فتغدو استنتاجاته كما لو أنها "عصيدة انتقائية" بتعبير أنجلز. هذه العصيدة هي الروح التي يستلهم منها هذا النادي جميع أفكاره. وللأسف الشديد، ولفقدان النموذج، تتكاثر هذه العينات وتشكّل دفاعات صلبة وترسم الخطوط العامة لأدبيات الاستبداد الاجتماعي عبر انتقاء معايير وقيم تحدد الصالح والطالح.
اتسعت لدينا رقعة الفئات الاجتماعية التي تتخذ من الشعور بالدونية وجلد الذات شعارًا لها
وقد يكون من المستغرب أن يفرد أحدنا مقالة تسلّط الضوء على مثل هذه الفئات الاجتماعية، كما لو أنهم قادة للفكر. لكن من يتعايش مع الوضع العراقي، فعلى الأغلب سيصل لنتيجة مفادها، إن طغيان الحس الشعبوي أسس جدارًا عازلًا تجاه الخطاب العقلاني. وكنتيجة للتراجع الحضاري الذي مني به العرب، وشيوع نماذج سياسية بائسة أسست لخراب للبلاد والعباد، وبدعم من القوى المهيمنة بشكل عام، اتسعت لدينا رقعة الفئات الاجتماعية التي تتخذ من الشعور بالدونية وجلد الذات شعارًا لها. حتى أن بعض المثقفين لا يجرؤ عن التصريح العلني لأفكاره خوفًا من استبداد هذه الفئات.
اقرأ/ي أيضًا: الشعب العراقي المذنب: محاكم وإعدامات رمزية
ثمة مشكلة عويصة تعاني منها هذه الفئات الاجتماعية الناقمة على الوضع المزري. فهي تريد أن تترجم نقمتها على شكل براهين نظرية! ومعايير أخلاقية لا ينبغي لنا مخالفتها. وإن خالفناها يعني أننا لا علميين ولا منطقيين. ومن هذه "النظريات العلمية": لا يجوز أن نتهم أمريكا بكل ما يحصل؛ فعليك أن تضع نفسك أمام تضاد منطقي، أما أمريكا أو السلطة الفاسدة. بعبارة أوضح، لا يمكنك أن تضع الفاسدين المحليين وأمريكا في سلة واحدة لأنهما نقيضان لا يجتمعان! سوف تُتهم بمقارنة فجّة بين الملائكة والشياطين، أو سوف تتعرض لموجة غوغائية من الردود العنيفة تتهمك بالتبرير ونظرية المؤامرة. ولهذه الفئات تبريراتها فـ"اللصوص من على الشاشات يتبارون في جو فكاهي عن حوادث السرقة بل القتل بالوثائق والصور، في حين يتحاشى الروائي الحديث عن قصة حب نقية"، حسب تعبير الروائي حمزة الحسن.
المهم في الأمر، تذهب هذه الفئات أيضًا إلى "نظرية" مفادها أن العراقيين لا يستحقون دولة، لأن الشعوب الباقية شعوب مسلفنة وموضوعة بصناديق ذهبية، ولعلها تتمتع بخصائص جينية متطورة تنسجم مع التقدم! بهذه المقدمة، يغدو الشعب العراقي والسلطة الفاسدة في قفص اتهام واحد؛ فما ينطبق على السلطة ينطبق على الشعب، بحجة أن السلطة تكون انعكاسًا للشعب، والشعوب العربية المغلوبة على أمرها تستحق الأنظمة القمعية، حتى لو خرجت بمظاهرات مليونية تندد بالطغيان؛ فلا الشعب السوري، ولا المصري، ولا العراقي، يستحقون الحياة، فهم والسلطة الفاسدة على حد سواء، ولا يشفع لهم كل هذه التضحيات التي قدمها الشباب. لكن ما أن تفشل هذه المظاهرات يتسارع المتحذلقون بذم الشباب على تسرعهم وتناقضهم.
من جانب آخر، يمكن أن نشرعن لإبادة شعب بأكمله بحجة المصلحة، ويمكن أن نشرعن للحصار الاقتصادي على الشعوب بحجة فساد الأنظمة وفساد شعوبها. ويمكن كذلك أن نغض الطرف عن استخدام الأسلحة المحرمة بعلم الولايات المتحدة ونعتبره مصالح دول. ويمكن كذلك أن نستنتج ضحايا السلاح الكيميائي في قرى حلبجة كان استحقاقًا للشيوخ والأطفال الرضّع، وأن سكوت الأمريكان عن هذه الفجيعة لا يمكن إدانته لأنه سيضعنا مع الفاسدين في مسار واحد، أو سيطبع المتذمرون بميسمهم على جباهنا عبارة "رجعي" و"عتيق".
مثلًا، يمكننا أن نكره النظام السعودي وندين خطابه الطائفي وسياساته التخريبية في المنطقة، لكن لا يجوز أن نتعدى أدبيات الناقمين ونذكّرهم بالدعم اللامحدود الذي يحظى به هذا النظام من قبل أمريكا. كذلك يحق لنا إدانة إيران كمؤثر خارجي في العراق، لكن ينبغي أن لا نتعدى حدودنا بإدانة أمريكا، لأنه يجرح كرامة الفئات الناقمة. فما يصح لأمريكا لا يصح لإيران وغيرها، ذلك أن إيران تدعم الفصائل المسلّحة، وأمريكا تدعم الديمقراطية وتدين الديكتاتورية، بدليل أنها نكلّت بالشعب العراقي بالجوع والحرمان والتمزّق الاجتماعي لمحاصرة نظام صدام حسين، وكمقدمة للديمقراطية التي نتعايشها الآن! لقد قررت أمريكا، أنه لكي تحظى بنظام ديمقراطي جيد، فلا بد لك أن تحتمل حصارًا جائرًا، واجتياحًا لأراضيك، والتعامل مع بلدك بلغة المكونات، وأن تدعم أكثر الجماعات فسادًا في تاريخنا السياسي.
هذا ولا زال الناقمون يحلمون بـ"مارشال" عراقي تقوده أمريكا لجعله نموذجًا ليابان ثانية. (هل تنطلي هذه الكذبة على صديق الأمريكان عبد الفتاح السيسي؟!). غير أن هذه الفئات تنصحنا دائمًا للبحث عن مصلحتنا، لكن كيف وماهي الآليات وكم لدينا من ترف الاختيار لنغدو مُدَلَلين عند عرابي البيت الأبيض؟ ماهي الطريقة التي تقنع الأمريكان لتتعامل معنا كشعب واحد؟ وحدهم الله واللوبي الصهيوني من يعلمون ذلك .
في منطق هذه الجماعات تبدو الأشياء مقلوبة على رأسها، وواضح مقدار الخلط الرهيب بين مصالح الدول الخارجية وبين ضلوعها المباشر في تشجيع الخراب وتنصيب الفاسدين والدعم المستمر لنظام سياسي فاسد يأكل بعضه بعضًا. وضمن هذا المنطق المقلوب يغدو كل خطاب نقدي تجاه أمريكا خطابًا عدائيًا ويصب في صالح الفاسدين، بينما يمكنك أن توجه نقدك تجاه إيران والسعودية شريطة أن لا تربط نقدك لهما بالسياسة الأمريكية. فهؤلاء لا يفرقون بين الغرب الثقافي والغرب السياسي، ونحن نعاني من الغرب السياسي بالتحديد، لكن حتى هذه البديهة، لا تجد لها متّسعًا في أذهان المتذمرين، ويتساوى عندهم ترامب وآينشتاين.
جلد الذات ورثائها شيء، وبناء علاقات صحية مع الغرب شيء آخر تمامًا
تتضامن هذه الفئات فيما بينها لتقرر أن اتهام الولايات المتحدة يعني تبرئة للسلطة الفاسدة، أي أننا أمام اكتشاف علاقة طردية جديدة؛ كلما وجهت اتهامك إلى السياسات الأمريكية المجحفة كنت إلى السلطة الفاسدة أقرب! معلوم تاريخيًا ومنطقيًا أن المهزوم يرخي القياد إلى القوى المهيمنة ويعلن السير في ركابها، خصوصًا حين يفتقد شروط القوة والاستقلال، لكن ليس معلومًا لنا أن يبرر كل مخازيها بحجّة المشكلة في الداخل وليس في الخارج!
اقرأ/ي أيضًا: ذاكرة الدم والاستبداد
مؤكد أن للداخل خطاياه و شجونه وأخطائه وفظاعاته، وقد أشبعناه إدانة، ولم يعد ما هو متروك في الجعبة، لكنّه لا يكفي مسوّغًا للتعاطف مع الجلاد لدرجة ربطه بكرامتنا الشخصية، فيتحول نقدنا للأمريكان كما لو أنه يجرح كرامة الفئات الناقمة. أنت أمام دوامة مدوّخة من التناقضات تعانيها حين الشروع بالحوار مع الناقمين؛ إن ذكرّتهم بالجرائم المروّعة التي ارتكبتها الولايات المتحدة في تاريخها، فسيداهمك الجواب السريع والمحفوظ "إنها مصالح دول"، وإن ذكرّتهم بأنها المسؤول الأول والأخير لمنح الشرعية للفاسدين، فستسمع القوانة المحفوظة "السبب بالفاسدين". يمكننا أن نخرج بخلاصة ممّا تقدم: إننا ومهما كتبنا عن الفاسدين، فلا يشفع لنا كل ذلك ما دمنا نشكك بنوايا الأمريكان، فبطاقة الدخول في نادي الناقمين هو أن تسبّح بحمد الأمريكان.
لكن من حسن الحظ أن المؤسسات الأكاديمية الضخمة تطور بنيانها عن طريق النقد ولا تعير وزنًا لغيره. على أي حال، حينما تتسرب ملفات إضافية في المستقبل عن ضلوع الأمريكان وشراكتهم بهذا الفساد الهائل، فسنسمع ذات المحفوظة: "أمريكا ليست إلهًا"، لكن هذه "المعلومة" المهمة ليست كافية لتأسيس علاقات نافعة مع الولايات المتحدة، ذلك إن جلد الذات ورثائها شيء، وبناء علاقات صحية شيء آخر تمامًا. ماذا ننتظر من خطاب المهزوم غير رثاء الذات وتفشي العدمية، وماذا ننتظر من سلطة يرتهن مصيرها بالبيت الأبيض حتى لو ادعت عكس ذلك؟ وماذا ننتظر من شعب يبحث عن الخلاص في ظل درجات حرارة تصل إلى نصف الغليان؟ يبدو الهذيان في مثل هذه الظروف مشروعًا ومٌبررًا، لكن كيف نبرر لمن يعتقد أن احتلال الولايات المتحدة للعراق، وإشاعة الخراب في هذا البلد، هو لتخليص الشعب العراقي من الطاغية وتفريغ البلد من أسلحة الدمار الشامل وترسيخ قيم الديمقراطية؟! هل يحق لنا أن ندمع من الضحك على هذا الادعاء أم سيتهمنا الناقمون بالدفاع عن السلطة الفاسدة؟!
اقرأ/ي أيضًا: