تتحدّث الحكومة العراقية الحالية، مع أطراف سياسية مقرّبة ومدافعة عنها، عن "مرحلة استقرار" غير مسبوقة في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي، ويتمّ تسويق هذه "المرحلة" على أنها إنجاز لحكومة "الإطار التنسيقي" برئاسة محمد شياع السوداني، لكن العديد من التساؤلات تطرح عن حقيقة هذا الاستقرار، وهل هو فعلًا قائم أم أنه شكلي معرّض للانفراط في أي لحظة.
يرى باحثون أنّ القوى السياسية أعادت تكييف وضعها وسيطرتها على السلطة
فمنذ احتجاجات تشرين في خريف العام 2019، ومن ثم الانتخابات المبكرة في العام 2021، والتي لم تنجح الأطراف السياسية في تشكيل حكومة عنها لمدة عام كامل، وتخللها صراع للتيار الصدري مع "الإطار التنسيقي"، الذي أنتج اشتباكات الخضراء، شهد النظام السياسي وفق العديد من الباحثين، هزّات كبرى ومر بحالة غير مسبوقة من عدم الاستقرار، أدّت إلى تفشي قناعة تقول إنّ النظام "مات سريريًا" ووصل لمرحلة "ضرورة التصفير"، وأنه أصبح غير صالح للاستمرار.
وبعد انسحاب الفائز الأكبر في الانتخابات المبكرة، زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، استطاعت قوى "الإطار التنسيقي" تشكيل حكومة برئاسة محمد شياع السوداني، تسلّمت مهامها في تشرين الأول/أكتوبر 2022، ليشهد العراق فترة لم تضرب الصواريخ فيها على البعثات الدبلوماسية كما كان يحدث في فترة ما قبل "حكومة الإطار التنسيقي"، ولم تحصل ثغرات أمنية كبرى، فضلًا عن هدوء من ناحية الاستقطاب السياسي، وهو ما يدفع عديدون للحديث عن "استقرار" تشهده المرحلة الحالية.
مرحلة التخادم.. وحكم اللون الواحد
فضلًا عن ذلك، تراجعت في الآونة الأخيرة أصوات المعارضة ودعوات "إصلاح النظام السياسي بشكل كبير"، لكنّ هذا في نظر إحسان الشمري، رئيس "مركز التفكير السياسي"، لا يعني عدم حقيقة احتياج النظام إلى "إعادة هيكلة في متبنياته وثوابته، خصوصًا وأنه بني على أسس خاطئة منها المحاصصة واعتماد العرق والطائفة كهويات، وصعود الحزبية على حساب الدستور والقانون".
وبالنسبة للشمري، فإنّ "تراجع النشاط المعارض وضرورة إصلاح النظام لا يمكن على أساسه القبول بفرضية أن هناك قبولًا ببقاء النظام على علاته"، متحدثًا عن "الكثير من الدعوات خلال الفترة القليلة الماضية ضد النظام".
يقول الشمري لـ"ألترا عراق"، إنّ "البرنامج الحكومي للحكومة السوداني نص على إصلاحات جوهرية بالنظام، لكن لا توجد إرادة لذلك، ولا يوجد قبول من السنة والكرد أيضًا بإعادة هيكلة هذا النظام لأنه وفر لهم الكثير من الامتيازات".
ويستبعد الشمري أن يكون النظام الحالي قد أعاد تشكيل نفسه، بل يرى أنّ "القوى السياسية أعادت تكييف وضعها وسيطرتها على السلطة، واستطاعت إعادة تموضعها داخل مؤسسات الدولة وليس النظام".
ويصف الشمري الوضع السياسي الحالي بأنه يعيش في "وضع تخادم"، إذ أنّ "هناك ائتلافًا حاكمًا واحدًا سيطر على السلطة التنفيذية وعلى البرلمان، ولا تجد من يمكن أن يؤشر إلى وجود خطأ في مسار العمل السياسي"، مبينًا أنّ "هذا يظهر النظام على أنه أكثر استقرارًا مما سبق".
ويتوقع رئيس مركز التفكير السياسي أن "تصطدم الطبقة السياسية بسبب المصالح بينها، وسنشهد صعود المعارضة سواء معارضة الصدر أو نخبة جديدة تبحث عن التغيير وتعارض الائتلاف الحاكم".
تعيش حكومة السوداني في استقرار لأن هناك ائتلاف واحد يحكم الحكومة والبرلمان
ووفقًا لتقرير "رويترز" الأخير، يشهد العراق فعلًا استقرارًا غير مسبوق، لكن هذا يعود إلى ارتفاع أسعار النفط، والهدوء السياسي محليًا وإقليميًا، لكن مع ذلك، فإنّ هذا الاستقرار "لا يرتكز على أرضية صلبة".
والاستقرار الحالي "غير حقيقي"، لأن معظم أزمات العراق الجذرية لم تشتبك معها الحكومة الحالية، وهي لا تبدأ من الاعتماد شبه الكلي على أسعار النفط وتقلباته، ولا تنتهي بانتشار الفساد وبقاء الطائفية، كما ترى "رويترز"
وربما يتفق رئيس المركز الأسترالي للدراسات، الباحث أحمد الياسري، مع الشمري، بأن "حالة الاستقرار مؤقتة"، كما أنّ "حالة المعارضة ستعود للظهور مجددًا".
ويعتبر الياسري خلال حديث لـ"ألترا عراق"، أنّ "هذا الهدوء في العملية السياسية هو هدوء يسبق العواصف التي يعتمد تأجيجها على حالة الإخفاق والنجاح".
والحالة الآن في العراق هي حالة "وفرة مالية"، بحسب الياسري الذي يقول إنّ هذا الأمر "يضعف حالات المعارضة بشكل مباشر أو غير مباشر، لاسيما المرتبطة بالوضع المعيشي والخدمات والوظائف، باستثناء التيار الصدري، فهو حركة مؤدلجة لها أجندة وقائد، ونحن نتحدث عن الجمهور الذي تحركه مؤشرات البطالة والفساد والمستوى المعيشي".
وفعلًا، أضيف في موازنة العام 2023 التي نجحت حكومة السوداني بتمريرها، أكثر من 500 ألف وظيفة، وفقًا لـ"رويترز"، التي أشارت إلى أن هذا "مخالفة وتحد صريح لصندوق النقد الدولي"، من قبل الحكومة العراقية.
ويشير الباحث الياسري أيضًا إلى ما وصفها بـ"صراعات النرجسية" بين "المكوّنات المدنية، التي تعد سببًا إضافيًا لتشظي استدامة قضية المعارضة"، وهي إشارة إلى الحركات الناشئة وغيرها من التي لا ترجع إلى أي تصور ديني.
خطط طهران وواشنطن تتلاقى
ويذكر الياسري سببًا إضافيًا ومباشرًا لـ"الهدوء السياسي حاليًا"، والذي يتمثّل بـ"مشهد الاتفاقات الخارجية وحالات الصلح الإقليمية بين السعودية وإيران، وغيرها من حالات الصلح والتقارب الإقليمية والدولية".
كما أن المؤثر الخارجي ـ والكلام للياسري ـ أكثر "تأثيرًا من الداخلي، فالنظام السياسي العراقي يتكئ على أمريكا، وهي المؤسس لهذا النظام، فهي من تمده بالدعم الدبلوماسي والاقتصادي والدعم الأمني"، أما السياسات الداخلية "فقد تركتها واشنطن لإيران"، بحسب الياسري الذي يصف إيران بأنها "ناجحة بإدارة الملفات الداخلية، حيث أخرجت الصدر من المشهد بتصريح واحد من المرجع كاظم الحائري أو بملف أصحاب القضية، إذ ذهبت للتفكيك من الداخل، ومواجهة التيار بالملف العقائدي، وهي نقطة ضعف التيار الصدري لعدم امتلاك الصدر رتبة المرجعية، وتشظي أتباعه عقائديًا بين المراجع".
ويعتقد الياسري أنّ "خروج التيار من المشهد، أضعف حالة التوتر السياسي أيضًا، أما التيارات المدنية، فهي منقسمة وتحركها المزاجية السياسية".
وبالنسبة لرئيس مركز الدراسات الأسترالية، فإنّ أي حالة اعتراض قد تبرز حاليًا، ستواجه بسؤال "ماذا تريد"؟، إذ أنّ الزعم هو "الديمقراطية موجودة والخدمات والأموال موجودة وجاري العمل عليها، وليس هنالك اغتيالات ولا قصف للسفارات"، فيما يبرر الياسري ذلك كله بأن إيران "تمتلك كل شيء له علاقة بالملف الداخلي، وقادرة على معالجة وإشعال كل مظاهر عدم الاستقرار وفقًا لوضعها الخارجي".
باحثون رأوا أن حكومة السوداني إذا كانت تشهد استقرارًا فهي حالة مؤقتة
ويختم الياسري بالقول إنّ "حالة الضبط الإيرانية وحالة دعم الاستقرار الأمريكية توافقت فأنتجت السوداني، الذي أعطى ضمانات للسفيرة الأمريكية، وقام بنقل نشاط وحركة الفصائل إلى سوريا، فضلًا عن توجهه لنقل معسكراتهم إلى خارج المدن وهي من بين الضمانات المقدمة لواشنطن"، إلا أنّ الياسري يعود ويصف حالة الاستقرار بـ"المؤقتة".
وبالإضافة إلى صراع الأحزاب الكردية في مناطق العراق الشمالية، وشن تركيا وإيران لهجومات ضد جماعات الكرد هناك، فإنّ تحديات ومخاوف اندلاع "حرب أهلية" لم تهدأ إلا بانسحاب زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، بحسب "رويترز"، التي تنقل عن محللين قولهم، إن "شوارع العراق قد تشهد اضطرابات جديدة إذا سعى الصدر للعودة".