لا يستطيع أي أحد في العراق أن يتوقع أو يتخيل متى سيأتي الوقت الذي يرى فيه خروج البلاد من عرف "المحاصصة"، التي طبعت نظامه السياسي عقب الغزو الأميركي عام 2003، وعلى الرغم من أن هذه الآلية أدخلت العراق في نفقٍ لا يقود إلا إلى مجهول، وهو ما يتضح اليوم برؤية الحراك الشعبي العارم والتضحيات الذي قدمها لتحقيق قانون انتخابات جديد، وإزاحة حكومة بنيت على أساس المحاصصة.
كل المؤشرات تدل على أن المحاصصة الطائفية في العراق باقيةٌ وتتمدد، وأن حكومة علاوي ستكون امتدادًا لما سبقها
بعد كل ما تجرعه أبناء هذه البلاد من كأس محاصصة الأحزاب على ثرواته ومناصبه بعد 2003، تحولوا اليوم إلى شعبٍ ناقم على ساسته وعمليتهم السياسية، نقمة لم تعد تقتصر على مكونٍ دون آخر، كما أن هذه النقمة بدأت تتجاوز الشخوص السياسية إلى المرجعيات الدينية، على الرغم مما لها من قيم اعتبارية لدى جزء كبير من العراقيين، وما مظاهرات البصرة في صيف 2018 وتظاهرات تشرين الأول/أكتوبر 2019، إلا بداية لنقطة التحول الجديدة في أحلام الجيل العراقي الجديد.
اقرأ/ي أيضًا: بعد السني والكردي.. "انقلاب" شيعي على علاوي يهدّد تمرير حكومته
من هنا، يجب أن نقول إن مهمة حكومة رئيس الوزراء المكلف محمد توفيق علاوي، ليست سهلة، ويجدر به أن يقوم بكل جدية بتغيير يمكن أن يمنح العملية السياسية في العراق عمرًا أطول، وإلا فإن واقع الحال لا زال يفيد بأن الأحزاب السياسية التي شكلت العملية السياسية عقب 2003 ترفض أن تغادر مربعها الطائفي الأول، ولا تزال مصرّة ومتمسّكة بالتوزيع الطائفي للمناصب والوزارات، حتى وإن أظهرت دعمها له، ورغبته في تشكيل حكومة مهنية تتجاوز، ولو بحدود، مربع الطائفية الأول.
تؤكد قراءة في قوائم الأسماء التي تسربت ممن تم ترشيحهم للمناصب في الحكومة الانتقالية أن المكلف محمد علاوي فشل في أول اختبار، وهو فرض إرادته على إرادة الأحزاب والرضوخ لرغباتها التي سحبته للجلوس مع وفود الأحزاب الكردية والسنية في محاولة لتغيير القناعات، وكسب ثقة الآخر بمنح شيء ما مقابل تمرير الحكومة بالتصويت داخل البرلمان في جلسة الثقة، ومن جان آخر أن أغلب الأسماء، وإن كانت ظاهريًا غير منتمية لهذا الحزب أو ذاك، إلا أن الكل يعلم أنها ستكون مؤدية لفروض الطاعة والولاء لهذا الحزب أو ذاك، هكذا ببساطة يتم تشكيل الحكومات في العراق، وهو ما يجعل الجواب على سؤال: لماذا فشل الحكومات في العراق سهلًا؟
لأن كل المؤشرات تدل على أن المحاصصة الطائفية في العراق باقيةٌ وتتمدد، وأن حكومة علاوي، هذا إذا لم يفاجئ الجميع ويقدم استقالته أو يترك مهمة تشكيلها أو يتخلى بعد منح الثقة له، ستكون امتدادًا لما سبقها من حكومات إياد علاوي والمالكي والعبادي وعبد المهدي، فالأحزاب التي شكلت العملية السياسية قبل خمسة عشر عامًا، ذاتها، والنواب الذين أفرزتهم تلك الأحزاب في انتخابات أيار/مايو 2018 هم أنفسهم مع بعض التعديلات، والوزراء الذين يُفترض أن يكونوا من التكنوقراط تغيرت أشكالهم، ولم تتغير انتماءاتهم الحزبية والطائفية والعرقية، ما يعني أننا أمام حقبةٍ أخرى من حقب الصراع بين الشعب العراقي وطبقته السياسية، وهو ما يُؤذن، مرة أخرى، بسيناريو ربما لا يتوقعه أحد، لكنه حتمًا سيناريو يدعو إلى التشاؤم.
ما يراد للعراق اليوم أن يبقى يدور في الحلقة المفرغة نفسها التي رُسمت له، وأن لا يخرج منها، لأن في ذلك مصلحة لمن شكّل وساهم في تكوين هذه العملية السياسية، وتحديدًا القوى الدولية والإقليمية، وهنا يجب الانتباه إلى أن هذه الحكومة الجديدة، والتي لا زالت القوى الحزبية والطائفية تتناقش من أجل ترشيح من تبقوا من وزرائها، تأتي في ظل عقوباتٍ أميركية فرضت على إيران، والكل يعلم أن طهران لم تعد ترى في بغداد إلا امتدادًا لها ولسياساتها، فضلًا عن كونها بابًا من الأبواب الكبيرة للحصول على عملة الدولار الصعب، والبوابة الخلفية التي يمكن لإيران من خلالها التحايل على العقوبات الأميركية.
يراد للعراق اليوم أن يبقى يدور في الحلقة المفرغة نفسها التي رُسمت له، وأن لا يخرج منها، لأن في ذلك مصلحة لمن شكّل وساهم في تكوين هذه العملية السياسية
نعم، ستسعى طهران المحاصرة بالعقوبات الأمريكية، ومعها واشنطن، ومعها قوى حزبية عراقية، إلى محاولة أن تحقق الحكومة الجديدة استقرارًا، ولو في حدّه الأدنى. ولكن، هل سيقبل العراقيون بذلك؟ أمن بلا خدمات؟ أمن بلا وظائف؟ أمن بلا حقوق؟ أمن بلا حريات؟
اقرأ/ي أيضًا: ديمقراطية التوافق.. رؤساء بلا أب ومكلف بـ"التواثي"
أعتقد أن الجواب على ذلك يمكن أن نقرأه اليوم بالعاصمة بغداد، قلب العراق وأخصب أرض المصالح في العالم، التي بدأ شبابها قبل أربعة اشهر ولليوم، وعلى الرغم مما تعرّضوا له من قمع وظلم وكل أنواع الإرهاب، إلا أنهم ماضون في استعادة سيرة حراكهم الشعبي ضد الحكومة والأحزاب والمجاميع المسلحة والتدخلات الخارجية، للمطالبة بحقوقهم وحقوق بقية الشعب وإن لم يخرج معهم، فضلًا عن من سقطوا فداءً للوطن موشحين بدمائهم تاركين خلفهم كلمات حق امتزجت مع كل صوت يصدح في ساحة التحرير لاستعادة الوطن وخيرات شعبه، من الدخلاء.
اقرأ/ي أيضًا: