05-مايو-2020

تحول التعليم إلى مشكلة اجتماعية بالنسبة للإناث (Getty)

اعتمادًا على معايشتي الطويلة في المناطق الشعبية، ولكوني أتحدّر من بيئة تتحكّم فيها القيم العشائرية أكثر من أي منظومة أخرى، فمن عانوا مثلما عانيت (وهم بالألوف بكل تأكيد)، يفهمون كلامي جيدًا، ذلك أن ما أكتبه يعتمد على معايشة طويلة ومشاهدات حقيقية لم أقرأها في كتاب ولم أسمعها من أحد؛ إنّها حقيقة يومية يتعايشها سَكَنَة المناطق الشعبية كل يوم. وعليك أن تسأل معي هذا السؤال: ما هو حال الكائنات البشرية التي تقع ما وراء حدود مدينة الصدر أو ما يطلق عليها "السدّة"، وهي عبارة عن مرتفع ترابي يمتد على طول المدينة، وتقع خلفه مناطق سكنية كثيرة وتمتد لمسافات طويلة وينخرها الفقر نخرًا. ثمّ يسأل المرء: ما هي حياة المرأة هناك، ما هي حصتها من التعليم؟

تتحول أنبل القضايا إلى مشكلة اجتماعية في البيئات العشائرية، كما تحول التعليم إلى مشكلة اجتماعية بالنسبة للإناث!

باعتباري أتحدّر من عشيرة كبيرة ومعروفة، وبحكم روابطي العائلية بهذه العشيرة  لاحظت وجود النساء الأميّات بنسبة كبيرة جدًا ومثيرة للقلق. والسبب هو الخوف على البنت من ظواهر الانحراف التي تكثر في مجتمعنا، بمعنى أن حرمان البنت من التعليم مرتبط بقضية الشرف! ثمّ تأتي الأسباب الأخرى في المرتبة الثانية. ولنا أن نتخيّل كيف تتحول أنبل القضايا إلى مشكلة اجتماعية في البيئات العشائرية. أعني أن يتحول التعليم إلى مشكلة اجتماعية بالنسبة للإناث!

اقرأ/ي أيضًا: في ظل "الأزمات الثلاث".. ما مصير الاحتجاجات العراقية؟

لا أتكلم عن جيل أمهاتنا، وإنما عن الفئات العمرية الصغيرة، إذ تتوفر نسبة كبيرة من هذه الفئة محرومة من الدراسات الأوليّة فضلاً عن الثانوية. ثمّة "عقيدة" شائعة في هذه البيئات الفقيرة مفادها، ليس بالضرورة أن تكمل المرأة دراستها، حيث يكفي تعلمّها القراءة ومن ثمّ تذهب إلى بيت الزوجية، فهذه محطتها الأخيرة في الحياة ولا شيء غير ذلك على الإطلاق. حتى إنّي، في حينها، لم أعد أميّز بين الواقع والخيال: هل تعليم المرأة واقع أم خيال؟!

 لأنّك قد لا تدرك ماذا يعني أن تقضي شطرًا من حياتك في بيئة شعبية تخضع لمنظومة قيم عشائرية متزمّتة، تتحكم في مستقبل البنت، ثم تحولها لاحقًا إلى بؤرة من الأمراض النفسية، والويل لها إن انحرفت من السكّة المُعَدّة لها سلفًا. وبالطبع، وبمرور الزمن، نشأت أجيالًا كثيرة على هذا الترويع، ومعظم النساء من جيل الثمانينيات فما دون، على أقل تقدير، تعاملنَ مع هذا الأمر كما لو أنه جزء من الطبيعة، ولذلك لا نجد لهنّ حماسًا يذكر للتعليم. كل هذا تشاهده وتتعايشه، وليس هذا فحسب بل تتصور، بحكم تنشئتك، أن ما يحدث جزءًا من الحقيقة وما عداه رجس من عمل الشيطان، على الطريقة العشائرية طبعًا وليست الدينية.

لا أعتقد أن للقيم الدينية دخلًا في هذه الظاهرة، ولا توجد حرمة شرعية في تعليم النساء. إذ يمكن إجراء مقارنة بين المحافظات الدينية (كربلاء والنجف)، لنكتشف حجم الفارق الهائل بين هذه المحافظات الدينية، ومحافظات الجنوب التي يتنامى فيها الحس العشائريَ يومًا بعد يوم. ولا بأس أن نجري مقارنة ثانية عن نسب النجاح التي تحققها المحافظات الدينية، لنعرف مدى الاهتمام الذي تبديه هذه المحافظات لتعليم كلا الجنسين. مضافًا إلى سبب آخر يعد من ضمن الأسباب المركزية في هذه الفوارق، وهي أن الجنوب كما لو أنه مفقس للشهداء، وميدان للحروب، وهبة مجانية للعذاب البشري، فتبدو الحياة الكريمة مُحرّمة على ابن الجنوب ومشاعة لغيره من اللصوص.. هذه الأسباب وغيرها، من غير أن ننسى دور القيم العشائرية، ساهمت بشكلٍ فعّال في تنمية هذه الظاهرة، على الأقل أتكلّم عن البيئات الشعبية ذات الجذور الجنوبية في العاصمة بغداد، التي تنحصر وظيفتها في تقديم الشهداء واليتامى والمعاقين وعمّال الخدمة. أمّا نسب التعليم في الجنوب فبالتأكيد قد تبدو المؤشرات مختلفة تمامًا عن السابق (وأتكلم هنا عن المشاهدات الشخصية فقط)، لكن قد يبقى وجه المقارنة بينها وبين المحافظات الدينية بعيدًا بعض الشيء نتيجة الاستقرار النسبي الذي حظيت به هذه الأخيرة. 

على أي حال، تنتشر هذه العبارة (المرأة مكانها البيت) في أوساطنا الشعبية، لتتحوّل إلى مقولة ثابتة لا يمكن التشكيك فيها، وعلى هذا المنوال يتخذ  بعض الشباب الجدد من هذه العبارة شعارًا ذهبيًا لحياتهم الزوجية. يخشى بعض الشباب من التمايز المحتمل من قبل زوجاتهم، وما يسبّبنه من إحراج يكسف مزاجهم لتباين الفارق التعليمي، لذا يحرص هؤلاء على تجهيل زوجاتهم ليبقى (سي السيد) محافظًا على مكانته الرجولية! والتي تعني ما تعنيه أن تبقى زوجته أميّة ليطمئنّ على قيمته المميزة، أوتتوقف حياتها الدراسية، على أقل تقدير، عند المرحلة الابتدائية أو المتوسطة.

سلطة القبيلة سلطة مرعبة، ومن يقلل من شأنها فهو واهم، وعلى أقل تقدير فهو يعيش في كوكب آخر، وما لم تتخذ الدولة -إن وُجدت!- موقفًا حازمًا من هذه الظاهرة، سيظهر لنا جيل (بل أجيال) تتخذ من التخلّف عنوانًا لقيمها البطولية! إذ يكفي أن تكون المرأة خادمة لزوجها فهذه غاية المنى، بل هذه القيمة التي ينبغي للمرأة تفضيلها على المتبقي من نشاطاتها الروتينية مقارنة بهذه القيمة.

 الشيء الذي يثير القلق هو أن الأجيال الجديدة في المناطق الشعبية تحمل ذات القيم التي تغنّى بها الأجداد مع بعض الفوارق ربما

ولو كنت مشرّعًا في الدولة لسارعت بإصدار قانون يجرّم كل من يحرم ابنته من إكمال الدراسة ويتحكّم بمصيرها ويمعن بتجهيلها. إن شمولية الدولة في هذا السياق بالتحديد نافعة ومهمة وضرورية للتقليل من سطوة العشيرة وتلاعبها بمصائر أبنائها وتجهيلهم على حساب قيم جاهلة وبالية. وعلى الدولة أن تضع في أولوياتها نسبة الفقر المرعبة في هذه المناطق المنكوبة، فالتعليم وسط بيئة فقيرة ومعدمة يغدو ترفًا ومضيعة للوقت.

اقرأ/ي أيضًا: الجماعات وخصومها: العلاج بالتخوين!

المهم في الأمر، إن الشيء الذي يثير القلق هو أن الأجيال الجديدة في المناطق الشعبية تحمل ذات القيم التي تغنّى بها الأجداد مع بعض الفوارق ربما، ذلك أن "التقدم" في مثل هذه البيئات الشعبية بطيء وثقيل جدًا ويستغرق زمنًا ليس بالقصير، فالتحولات الاقتصادية والاجتماعية ليست رحلة استجمام بالتأكيد.

نحن وسط كارثة اجتماعية مروّعة، لكن من يهتم ومن يشعر بهذه المعاناة المرعبة؟ وإن كان هناك من يهتم من يسمع صوته إذا تعلّق الأمر بالعشيرة، أليس مصيره يتعلّق بعبارة مخطوطة على جدار بيته (مطلوب عشائريًا)؟!

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا لا نتغيّر؟

القراءة والحرية