30-نوفمبر-2022
العشائرية

المجتمع العراقي من أكثر المجتمعات التي لا زالت تحتكم لقانون العشيرة (فيسبوك)

إن النزعة البدوية التي تغلغلت في المجتمع العراقي خلال مئات السنين لا يمكن أن تزول عنه سريعًا، أنها تتضاءل في قوتها بمقدار ما تنمو قوة الحكومة إزاءها، غير أنها في أكثر الأحيان كامنة في أعماق النفوس تترقب الفرصة السانحة لكي تخرج من مكمنها فتعود إلى العبث من جديد. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ص11، ج2. 

ثمّة فارق واضح بين ما نتمنّاه وبين ما نسعى إليه: الأول يتوقف عند حدود أحلام اليقظة ويبقى يدور في مدار التجريد، بينما يتقدم الثاني وهو يتحرر من المثاليات ويتحول الواقع بالنسبة له إلى حقل هائل للتجريب والممارسة. لذلك يصعب على من ينخرط في السلطة أن يبقى محافظًا على مبادئه المثالية، فهو أمام اختبارات عسيرة ومقارنات مليئة بالإحراج بين ما كان يتمناه وبين الممارسة الفعلية. لا يتوقف الأمر على الممارسة السياسية بل يتعداها إلى مختلف مناحي الحياة. بيد أن التركيز على قضايا الفكر والثقافة التقدمية هي أكثر المطبات التي تفضح ادعاءاتنا ونحن نقسم الناس إلى فسطاط خيرين وفسطاط أشرار. ومثلما يقسم الفقهاء الناس إلى خاصة وعامة، لا يختلف عنهم أصحاب الأفكار "التقدمية" في ذلك التقسيم.

الأعراف القبلية لا زالت حاكمة في المجتمع العراقي ولا زال "القانون" العشائري لا يقل سطوة عن القانون المدني

إنّ المحزن في الأمر والمضحك في ذات الوقت هو أنك تجد ذوي الأفكار التقدمية قد يبدون مؤثرين في بيئات ثقافية أخرى، سواء عن طريق الاحتكاك بهم أو قراءة نتاجاتهم، وهذا هو المهم، لا تعثر على تناشز معرفي ونفاق اجتماعي في سلوكهم الثقافي. بينما في بلد قبلي مثل العراق يصعب على الكثير من الناس إحداث قطيعة حقيقية مع ذلك الشيخ المتربع في وسط دماغه، حتى لو كانوا يلبسون الماركات الفاخرة، والحقائب الجلدية الأنيقة، والقبعات الإيطالية، فهي بدائل عن العقال والكوفية فقط، في حين يبقى الشيخ متربعًا بلا منافس ولم يستطع صاحبنا إزاحته، وثمة طقوس سرية يقيمها مع هذا الشيخ يجدد له عهود المبايعة والولاء.

في إحدى الحوارات التي جمعتني مع مجموعة من الأصدقاء، أعترض أحدهم قائلًا: "أنت تكثر من ذكر العشائر كثيرًا، وتعطيها دورًا مؤثرًا في ما يحصل من نكباتنا السياسية والاجتماعية، والحال أن العشائر لم تعد بتلك الهيمنة يوم كان العراق أغلبيته عشائرية تعبر عن نفسها بواسطة أحلاف قبلية معروفة، وسلطات لا يمكن تجاهلها وملكيات شاسعة كانوا يحكمون قبضتهم عليها، وإقطاع كان يشكل ثقافة بارزة في المجتمع العراقي، وقوة موازية لقوة الدولة، حتى أن "قوتهم العسكرية كانت تتفوق على القوة العسكرية الملكية، وما إلى ذلك من الحقائق التاريخية".

 ومع أن الأعراف القبلية لا زالت حاكمة في المجتمع العراقي، ولا زال "القانون" العشائري لا يقل سطوة عن القانون المدني، بالإضافة إلى التجمعات العشائرية التي استطاعت أن تحافظ على الكثير من هويتها حتى هذه اللحظة.

أقول فلنغض الطرف عن كل هذا وغيره الكثير من تأثيرات العشيرة، ونركز على حقيقة فاتت صديقي المعترض، وهي إذا سلمنا بكل ما يقول فسنجد صعوبة بالتسليم بخصوص الذاكرة الثقافية، ذلك أن الماضي هو أحكامنا المسبقة، وهو من يشكل هوياتنا، ولا يمكن الاتفاق معه حول مفهوم السلطة الضيق الذي حصره بوقائع تاريخية محددة، ذلك أنّ السلطة ترشح من مسامات حياتنا الاجتماعية بشكل قد يفوق مفهوم السلطة الكلاسيكي؛ حيث لا زالت قيم العشيرة هي الحاكمة، بشكل عام، في لا وعينا وتشكل الجزء الأعظم من هويتنا.

يمكن أن نشاهد تطبيقات عملية ليس بالهيّنة: في حوارات العراقيين، في طبيعة ردود أفعالهم، في وثباتهم السياسية، في نزاعاتهم الشخصية التي لا تنتهي. مثلًا، يمكنك أن تشاهد "الصراعات الثقافية" الحادة في مواقع التواصل الاجتماعي: علمانية، إلحاد، يمين ويسار، ليبرالية، حقوق إنسان، نسوية.. إلخ، كل شيء تعثر عليه في هذه المفاهيم إلا حرية التفكير! فهي العدو الأول لكثير من الشرائح الاجتماعية في العراق، لذلك لا تجدهم يطيقون فكرة الاختلاف بقدر ما تتملكهم روح العدوانية تجاه أبسط المواضيع. 

لا يقال هنا إنهم في الغالب أناس عاديين، وبصرف النظر عن الدخول في عالم المثقفين وما يقال عادة عن نرجسيتهم، وخوائهم، وانتهازيتهم، ورخاوتهم وغير ذلك، فإنّ القضية هنا أعم من كونها مقارنة بين متعلم وغير متعلم، بين مثقف وشخص عادي، وإنما محاولة لفهم ثقافة قائمة بعمومها على ذاكرة القبيلة، ثقافة يعتبر التحيز والتجزئة والاختزال أحد عناصر بنيتها الثقافية، حيث تميل إلى وضع الناس في مربعات مذهبية وطائفية.

بالتأكيد لا يتوقف هذا المرض العضال عند المجتمع العراقي فحسب، لكن لا أظن أحدًا يجرؤ بالقول ولا يجعل من العراق حالة استثنائية ومختلفة عن باقي المجتمعات نظرًا لخريطته المذهبية والقبلية، والتي لم تتصالح مع الدولة حتى هذه اللحظة، وهو يشكل أحد تحدياتنا المريرة. خصوصًا أن المجتمع العراقي، ربما هو من أكثر المجتمعات التي لا زالت تحتكم لقانون العشيرة وتعتبره نافذًا.

 فالطائفية في العراق ، على سبيل المثال، تأخذ مدلولًا أوسع حيث يندمج فيها عنصري المذهب والعشيرة ليكونان هوية صلبة قائمة على الاستبعاد، بينما ليس بالضرورة أن يتحد هذين العنصرين في مجتمع آخر، وإن وجدا فسيتم تسليط الإكراه القانوني والمؤسسي عليهما بقوة. صحيح أننا هنا نتكلم بالأساس عن المشرق العربي الذي يعاني من بنية مؤسسية رخوة لكنّ المقارنة تجعل منه أوسع وأكثر حيوية بما لا يقاس مع الوضع العراقي.

 يمكننا أن نحلم بإطار نظري يمثل خلاصة ما توصلت إليه العلوم الإنسانية لفهم وتحليل المجتمع العراقي، بيد أن حاضرنا ينتصر بوضوح لتفسيرات علي الوردي، تلك التفسيرات التي نستطيع أن نكثّفها بهذه العبارة: الأفكار تقدمية والسلوك عشائري.