ومن ذا الذي ينفذ إلى ثنايا ضميره يستطيع أن يحترم نفسه؟ أرنستو ساباتو، رواية أبطال وقبور.
في السابع والعشرين من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022 صوت البرلمان العراقي على المنهاج الوزاري والكابينة الوزارية لرئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني. ومثلما جرت العادة، منذ 2005 وحتى هذه اللحظة، يجري تقسيم الحصص والمغانم على رجالات السلطة باسم "المكونات". كل شيء على ما يرام طالما يجري التخادم بالطرق المتفق عليها بين الكتل السياسية بعيدًا عن كل المنغصات الطائفية.
حتى لو تقلّد الوزارات كفوء وخبير سوف لا ينجو من مصيدة المغانم الفئوية والتحكم بسياساتها من قبل الجهة الساندة لهذا الوزير
من النادر جدًا مراعات عنصري الخبرة والكفاءة في استيزار المرشحين، بقدر ما يلعب الولاء دورًا محوريًا في اختيار الأشخاص "الكفوئين" في المبايعة والولاء لكتلهم السياسية، عدا الوزارات المهمة التي ترتبط بالسياسة النقدية، والطاقة، مثل المالية، والبنك المركزي العراقي، والنفط. وكما يبدو ثمة فيتو أمريكي ضد التلاعب بمناصبها أو خضوعها لبورصة المزادات الوزارية. وأيًا ما يكن الأمر، فهذه المناصب تخضع لضوابط تغيب في باقي الوزارات، حيث أضحت هذه الأخيرة دكاكين للصفقات والتسويات واسترضاء جهة على حساب جهة أخرى.
حتى لو تقلّدها وزير كفؤ وخبير، سوف لا ينجو من مصيدة المغانم الفئوية والتحكم بسياساتها من قبل الجهة الساندة لهذا الوزير. الوزير يعاهد جهته الداعمة ويلتزم أمامها لا أمام رئيس السلطة التنفيذية! المهم في الأمر، يبقى الحفاظ على التخادم ساري المفعول لأنه المعيار الوحيد لنجاة السياسي من فخ المساءلة والعدالة إن وُجدت، ذلك أن المحاصصة وحدها لا تكفي ولا تعطي ضمانات كاملة للنجاة.
يبدو أن مفردة "المحاصصة" الشهيرة وسيئة الصيت قد ضعفت، إلى حد كبير، وهي على وشك الانسحاب من قيد التداول العمومي بين أوساط الرأي العام. فمفهوم المحاصصة يصور الأمور على غير طبيعتها، ويخيل إليك أنه ثمة صراع طائفي حقيقي على تقسيم المناصب لغرض خدمة الطوائف، والحال عكس ذلك تمامًا؛ فلا النخب السنية متفقة فيما بينها والمنخورة بالفساد من رأسها إلى أسفل قدميها، ولا النخب الشيعية، التي اتضحت صورتها في الآونة الأخيرة، والمُنشطرة إلى معسكرين، تتوزع ولاءاتهما داخل الحدود وخارجها، فضلًا عن الكرد وصراعهم المحموم وآخره التنافس على رئيس الجمهورية. ويبقى "المواطن" (أو بالأصح: المبايع) في أقصى الهامش، لا يشكل أي أهمية في طاحونة التحالفات والصفقات هذه. ما يهم هو التخادم فقط.
المهم في الأمر، لم نعد نسمع كثيرًا بتلك المفردة، وربما نحن على أعتاب مفهوم جديد يفسر حالة التحالف السياسي الواسع الذي اتفقت عليه معظم القوى السياسية المشاركة في السلطة. ويمكن تتبع سير العملية السياسية منذ بداية تشكلها في "العراق الجديد" سنلاحظ ثمة قفزة غير مسبوقة على صعيد العلاقات؛ من أعداء ألدّاء متخاصمين على مغانمهم باسم الطائفة والقومية، إلى حلفاء متخادمين فيما بينهم يربطهم مصير واحد ومزاد واحد.
ويبدو أن مفهوم التخادم بين الكتل السياسية هو الأدق والأكثر أهمية، من حيث كونه يعطينا تفسيرًا معقولًا عن العلاقة بين عموم السياسيين: هل هي علاقة أنداد طائفيين متحاصصين، أم أنها علاقة تخادم واعتماد متبادل بين فاسدين محترفين بكل ما تعنيه كلمة التخادم من معنى، ويجري على أساسها دفن ملفات الفساد، والتعاون على موازنة الكفة بين فساد هذه الكتلة وتلك، فتتلاشى على شكل تسويات لتبادل "الطمطمة" التي احترفها السياسيون؟
ليس كل تحاصص تخادم، بل كل تخادم هو تحاصص بالضرورة. فبالتالي يغدو التخادم أشمل وأعم. التحاصص لا يعني، بالضرورة، التخادم بين طرفين متناقضين بالرؤى والشعارات. كل ما في الأمر أن التحاصص يعني تحديد غنيمة كل مكون سياسي ضمن قيود واعتبارات وتقاليد سياسية تشيع بين الأوساط السياسية وتغدو بمنزلة العرف السياسي، وعلى إثر ذلك تتحدد، ضمن اعتبارات طائفية، النسبة المئوية لكل مكون.
فبالتالي ليس ضروريًا أن يجري تخادمًا بين أرباب الطوائف حول الفساد بالتحديد، بل على العكس من ذلك، ربما سيسعى كل طرف سياسي إلى تعرية خصمه الآخر بحرب ملفات ساخنة. في حين يعتمد التخادم على تجاوز كل هذه التعقيدات! فيهدأ المتخاصمون ثم يبحثون عن مخرجات وعلاجات جديدة لأزماتهم السياسية. كل ما زاد حجم الصفقات والمزادات ارتبط السياسيون في مصير واحد ما يدفعهم للنظر في آلية جديدة لضمان ديمومتهم، آلية ناجحة يغدو فيها الاعتماد المتبادل هو صمام الأمان للحفاظ على مصير الفاسدين.
إذًا، ولضمان بقائهم أكبر مدة ممكنة بالسلطة، وأمام هذه التحديات- التي لا تجلب سوى وجع الرأس- لا مرشح حقيقي مثل التخادم: فلتذهب الطائفية و الطوائف إلى الجحيم! وليكن خطابنا الجديد: شعاراتنا طائفية مكوناتية، وسلوكنا التخادم فيما بيننا للتغطية على عمليات الفساد الكبرى التي نقوم بها.
إن اقتضت الضرورة فستكون أمريكا وإسرائيل تهمتان جاهزتان للنيل من خصومنا غير المتخادمين معنا، لكن، وبدافع التخادم، ينبغي أن يتغير كل شيء حين تتوزع المغانم، فأمامنا عمل طويل لا يستقيم ولا تكلل جهودنا بالنجاح مالم نتخادم، أنه التخادم المقدس، فبغيره سنتهاوى جميعنا كقطع الدومينو. لم يعد الخصم السياسي في العراق تنطبق عليه معايير الخصومات السياسية السائدة، وإنما الخصم السياسي هو من لم يدخل في العملية الكبرى للتخادم والفساد.
إن كانت ثمة خبرة معترف بها لهؤلاء السياسيين بين عموم العراقيين فهو الفساد. السياسي العراقي استطاع ان يحترف كل فنون الفساد، لكنه فشل فشلًا ذريعًا في تعلم فنون الإدارة. وهذه المفارقة تسجل علامة بارزة عن ضعف وتردي الحالة السياسية طوال تاريخنا السياسي، حيث لم يستطع تاريخ العراق السياسي أن ينجب سياسيين محترفين بقدر ما أنتج طغاة وفاسدين. يصعب عليك أن تعثر على سياسي أو دوبلوماسي عراقي واحد يشار إليه بالبنان إلا ما ندر، لكنك ستعثر على عشرات الطغاة، وفي "العراق الجديد" ستعثر على مئات الطغاة الفاسدين.
الخصم السياسي في العراق هو من لم يدخل في العملية الكبرى للتخادم والفساد
إن الفساد ملة واحدة كما وصفه الراحل هادي العلوي، ولا يقتصر على طائفة دون أخرى وبالخصوص في عراق التخادم السياسي المقدس. ومن السخرية وإهانة الذات أن نفسر وضعنا السياسي بوصفه عملية محاصصة فحسب. بل لم تعد الطائفية مادة تحليلية مغرية لوضعنا السياسي، بقدر ما يلقي التخادم بظلاله على العلمية السياسية برمتها.
صحيح أن التقسيم الغنائمي موجود وموزع حسب الخارطة المذهبية والقومية لكنه لا يلامس سوى القشور في الوقت الذي تبدو فيه عملية التخادم هي النواة الرئيسية لتفسير قوة ونفوذ هذه الكتل السياسية وضمان ديمومتها. ذلك أن كل المؤسسات والهيئات والمديريات ترتبط بهذا الرباط: إنه التخادم السياسي المقدس العابر لكل أشكال الطائفية.