يُقال إن عمر الشيخوخة هو عمر الذكريات وليس الأحلام. يختفي ذلك التدفق الذي تمنحه اللحظات الآنية. القلب الغض الطري ترطبه الأحلام، أما الذي طحنته الأيام تتجلى كينونته على شكل فضاء متّسع من الذكرى. لكن لماذا تتسرب الذكريات، وتعلن عن نفسها لدى شخص لم يبقَ لعقده الخامس سوى أربعة أعوام، بيد أنه يتصرف على منوال الشيوخ؟! ثمة خيط رهيف يفصل ما بين الكهول والشيوخ، هذا الخيط يتوفر بغزارة، ويعلن عن نفسه بوفرة زائدة عن الحاجة في بلد مثل العراق؛ حيث الشباب، والكهول، والشيوخ تجمعهم الذكرى؛ ذكرى براءة خام تم اصطيادها والإجهاز عليها من قبل "الشريعة الاجتماعية المقدسة"، والتفسيرات الدينية المتصلبة، فلا سبيل سوى الإحالات إلى ماضينا البريء، ماضي ملاعب الصبى، يوم كنّا في حلً من سطوة الشيطان الرجيم، الذي تم إقحامه كضيف ثقيل في حاضرنا الحزين. الحاضر عبارة عن جرح غائر، كان بانتظارنا ليطرزنا بسيل من الانتكاسات. حاضر كان يتوارى في العتمة ليظهر لنا من فوهة مجهولة.
تمت القطيعة مع بعض ملامح التراث الشعبي بعد الأعوام التي تلت انهيار سلطة البعث 2003
يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز "لقد كان جرحي موجودًا قبلي، أنا الذي وُجدتُ لأجسّده"، كان جرحه بانتظاره على أحر من الجمر! انتظر اللحظة المناسبة فأجهز عليه وأحكم في خناقه فأرداه صريعا، والعراقيون في كل عقد من الزمن يظهر لهم هذا الجرح الغائر فيحيلهم إلى محض ذكريات، تستولي على الحلم، وتحرق معها كل الحاضر، فلا يبقى سوى الماضي نستدعيه في قصصنا اليومية. حاضر اختفت معه تلك الأزقة الشعبية الوادعة، التي كانت كرنفالات بهيجة، نجتمع فيها مع رفيقاتنا: "إنصاف" ذات البشرة السمراء، "سهام" بشعرها الأشقر وعينيها الخضراوين، "أحلام"، بشعرها الفاحم وبشرتها الحنطية، "نادية" التي كانت نسخة طبق الأصل من الممثلة المصرية "نيللي"، "شيماء" التي علمتني أصول الاستحمام يوم رأتني أول مرة في فناء الدار لا يسترني سوى سروالي الداخلي. نلعب "بيت البيوت"، "شرطة حرامية" نتقاسم الأدوار فيما بيننا، بنات وبنين. كانت الضحكات تتقافز في أزقتنا الضيقة كصدى أصوات قادمة من الأبدية، لا تفصلنا من هذه اللحظات الحالمة سوى أوقات النوم. لم يوجد يوم ذاك شياطين تتوارى في العتمة، كنا نتبادل الحكايات والأساطير، ومن ثم ننغمس في عوالمنا السحرية. كنّا نتخيل العالم فارغًا يضج بالصمت، لا أحد موجود فيه سوى ألعابنا السحرية. يمكننا أن نستشعر ذلك من خلال صدى أصواتنا، وضحكاتنا التي ترتفع إلى عنان السماء. لم نسمع طرفا ثالثًا أو رابعًا، كل شيء كان يجري مدفوعًا ببراءتنا الخام.
حل الشيطان كضيف غريب، يتسم بالحيل السحرية، تم زجه في أوساطنا عنوةً. دخل مناطقنا على حين غرة، كان عل وشك افتراسنا بقواه السحرية المخيفة. كنا نسمع أنه يمتلك القدرة على الإيحاء الكاذب، لا بل يمكنه العبث بأعضائنا التناسلية دون أن نعلم! كان يتوارى دائمًا في الظلال وبالكاد تلمحه عين، مما زاد من إثارتنا وشغفنا للعثور عليه. شغف معبأ بالخوف والأمل. كنا نسمع أنه يتمتع بقوى خارقة، لدرجة أنك تجده منتصبًا على صدرك في المنام، أو يمسك بخناقك ويأخذك إلى حيث يريد.
في بادئ الأمر كنت أتصور أنه القط الأسود ذو الأرواح السبع، الذي كان مصدر خوفي دومًا، من خلال القصص التي أسمعها من أمي، لكن تبين أن هذا الزائر الغريب أكثر رعبًا وحيلًا من القط الأسود. حتى حين دخلتُ طور المراهقة ظل هذا الضيف الغريب متواريًا عن الأنظار فترة طويلة. نسجت حوله الكثير من الأساطير. حاولنا أن نعثر عليه لكن عبثًا نحاول. وبفضل ذلك الشيطان تحولت المدارس إلى "غيتوات"، وتم عزل الجنسين، كما لو أنهم مصابون بالجذام. لقد سمعنا مؤخرًا أنه يظهر للعيان حين يشاهد اختلاط الجنسين، من خلال العبث المستمر بأعضائهم الجنسية. لكني لا أتذكر ثمة أحد عبث بهذه الأشياء طيلة فترة الابتدائية. أظنهم كانوا يقصدون سيكون بانتظارنا في الدارسة المتوسطة
سيحل الشيطان ضيفًا ثالثًا، فيما لو اجتمع المراهق بالمراهقة، و الشاب بالشابة، والرجل بالمرأة. حتى أنهم لم يفكروا، على الأقل، وضع الجنسين في صف واحد، بمقاعد خاصة ومفصولة نسبيًا لكليهما، فتكون المسافة بعيدة عن هذا الشيطان الرجيم! ولم يفكروا بتفادي هذا "البعبع"، على الأقل، عبر جهاز إداري وأمني في المدارس المختلطة، لضمان انسيابية النظام المختلط بشكل سلس خالٍ من الإسقاطات الاجتماعية، والتفسيرات الدينية المتصلبة. بدأ الشيطان بالظهور مطلع التسعينيات، تزامنا مع الحملة الإيمانية التي قادها "عبد الله المؤمن" صدام حسين، ثم اتخذت مسارًا مختلفًا، وأكثر جدية وانضباطًا، بعد ظهور الشهيد الثاني محمد محمد صادق الصدر. وهي دعوة خالية من التسويق السياسي والسلطوي مثلما كان يتشدق بها صدام حسين.
بدأنا نتراكض في ذلك الحين لتصفح الكتب الفقهية، لنفهم جيدًا كيف نتجنب الخلوة الشرعية، ونتعصب لفكرة تجنب اختلاط الجنسين، حتى لو كان الشيطان لا يمكنه اختراق براءة الأطفال. لكن، ومن باب الاحتياط، ينبغي تعليم الفتيات منذ الصغر على ارتداء الحجاب.
وعلى إثر هذه الصحوة الدينية الواسعة انتعشت سوق الحجاب، وبدأ هذا الأخير يلتف حتى على رؤوس الفتيات اللاتي لم يتجاوزن السن الشرعي. يمكنك أن تجد في هذه الأيام فتيات الابتدائية يلبسن الحجاب. لا يتعلق الأمر هنا بلبس الحجاب تحديدًا، فذلك أمر مرتبط بالتقاليد الدينية والاجتماعية. المشكلة الأكبر في ذلك الفصل القسري بين الجنسين منذ الطفولة. حتى لو كان النظام مختلطًا في الفترة الابتدائية، سنجد تلك الهوة السحيقة التي تفصل بين البنين والبنات، ولم تعد تلك الألعاب العفوية المشتركة تحظى بقبول شعبي، سواء في المدرسة أو في الأزقة. لقد اختفت كليًا تلك الألعاب الشعبية البريئة إلى غير رجعة، وبدا الحاجز واضحًا، وإذا ما ذكرنا الماضي لفتياتنا عن تلك الألعاب المختلطة، فستغدو تلك القصص كما لو أنها قصص عن العفاريت.تمت القطيعة مع هذا التراث الشعبي بعد الأعوام التي تلت انهيار سلطة البعث 2003، وبشكل أخص المناطق الفقيرة ذات الأكثرية الشيعية. باستثناء المدن المقدسة، الكاظمية، وكربلاء، والنجف، التي لا علاقة لها بالجانب الطبقي، بقدر ما ترتبط بتاريخها وقيمها الدينية.
إن الشيطان، من منظورنا الثقافي والديني، أينما كان وكيفما اتفق سيعبث بأعضاء الجنسين، فمن الأفضل أن ننظر للجنس الآخر بوصفه كائنًا أسطوريًا مخيفًا، يمتلك أعضاء جنسية فحسب. ولا يجوز لنا أن نشيع قيم الزمالة، والأخوة بين الجنسين. وبما أننا مجتمع "محافظ"، فلا نسمح بهذه الظاهرة المشينة. لم تذكر الأجيال السابقة علينا (أجيال الستينيات والخمسينيات فما فوق) قصصًا عن شيطان الخلوة هذا، بل كانت ذاكرة الشيوخ تمدنا بقصص مختلفة كليًا، فضلاً عن الوثائق المكتوبة والمصورة تظهر لنا كيف كانت المدارس عامرة بالاختلاط الصحي، يوم كانت الناس لا تتمتع بتلك الصحوة الدينية التي شهدها العراق قبل ثلاثة عقود.يمكننا أن نتسامح مع السرقة والنهب والفساد، كونها جزء لا يتجزأ من قيمنا القبلية، لكن لا يمكننا التفريط بالشيطان (الضيف الثالث)، بل سنستدعيه استدعاء كلما ارتبط الأمر بالجنسين، وكلمة السر هنا هي "الخلوة" حتى لو كانوا وسط حشد من البشر، فستظل المدرسة، على سبيل المثال وليس الحصر، مكانًا للخلوة! لا يجوز فيه الجمع بين الجنسين.
لا يهم أن تكون المدارس كإسطبلات الخيل، وزرائب الأبقار، ولا يهم مناهج التعليم البائسة، المهم أن يبقى الاثنان جزرًا معزولة في عرض المحيط، فيضطر الشباب أن يجعلوا من الجامعة قبلة أحلامهم الرومانسية، ويتلهفوا لتلك اللحظة الحاسمة التي يحلم بها كل شاب: اللقاء بفتاة جامعية.يذكر السيد كمال الحيدري الحديث القائل "لا ترى الرجال ولا الرجال يروها" ويعلق عليه متهكمًا، ويؤكد على الضعف السندي لهذا الحديث المريب، ويستشهد بفاطمة بنت النبي محمد كيف وقفت تخطب أمام حشد من الرجال، وزينب بنت علي بن أبي طالب كيف خطبت في مجلس يزيد. فما معنى هنا أن لا ترى الرجال ولا الرجال يروها؟!
لا يختلف الأمر فيما لو كانت طفلة، أو مراهقة، أو امرأة، حيث تبدأ التنشئة منذ الصغر على تجنب الذكور. وبعد أن بلغت هذه الطفلة وبلغت مبلغ النساء؛ موظفة مرموقة، مقدمة برامج تلفزيونية، نائبة في البرلمان، سيدة أعمال، عليها أن تتذكر دومًا أن صوتها عورة، وأن شعرة واحدة لو انكشفت من حجابها فهي طريق إلى جهنم. هذه الطفلة التي تم عزلها منذ الصغر بدت كما لو أنها فريسة من قبل الذكور بعد عزل دام لعقود، يتحينون الفرصة للقاء بها، بوصفها كائن غريب.ومع كل التجارب الرائدة في العالم المتقدم، وبالخصوص النظام التربوي العظيم، ومع كل النتائج الباهرة التي نطلع عليها يوميًا، وعن نسب النجاح الفائقة لاختلاط الجنسين، تبقى معيارية الشيطان الرجيم حاكمة على قيمنا الاجتماعية المجحفة. القيم تنظر للمؤسسة التربوية كما لو أنها مبغى. كل هذا يجري تحت ذريعة التقاليد الاجتماعية المحافظة، والتفسيرات الدينية المتشنجة، في حين لم تتحرك هذه القيم المحافظة المزعومة لكل هذا الخراب الذي طال العملية التربوية.
تبقى معيارية الشيطان الرجيم حاكمة على قيمنا الاجتماعية المجحفة
إن الشيطان الرجيم لا يدخل إلى المدارس الطينية، ولا يتغلغل في الدروس الخصوصية، وليس له شأن بأعداد النقص المهولة لبنايات المدارس، وهو بريء عن صفقات الفساد التي تجري في وضح النهار بخصوص تجهيز الكتب المدرسية، كما أنه لا يتحمل مسؤولية ازدياد المدارس الأهلية التي تثقل كاهل العائلة العراقية. إنه مسؤول فقط فيما لو اجتمع الأطفال من كلا الجنسين ليلعبوا ببراءة، لأنه سيزرع بذرته الشريرة في أعضائهم التناسلية منذ الصغر. لأجل هذا وغيره كان لزامًا علينا أن نستنجد بالذكريات تعويضًا عن هذا الحاضر المرعب، حاضر مملوء بالشياطين.