10-أبريل-2019

مشهد العاصمة بغداد، في ليلة 21 آذار/مارس 2003 (رمزي حيدر/أ ف ب/ Getty images)

كنت في السادسة عشرة من عمري عندما دخلت القوات الأمريكية بغداد، معلنين بداية حقبة جديدة مجهولة الملامح بالنسبة لمراهق لم يكن يعرف شيئًا عن السياسة وتفاصيلها سوى كراهية كبيرة للبعث ونظامه الاستبدادي المتمثل بصدام حسين، حيث لا رؤية أبعد من الخلاص والتغيير الجذري.

كان الخلاص من صدام حسين يمثل مدخلًا مهمًا لفهم مشاعر الكثير من العراقيين إزاء الغزو الأمريكي لبلادهم حيث تمظهرت أساليب الاستبداد والتمايز لتؤدي إلى التصديق بما يقوله الأمريكيون! 

وهذه التفصيلة تحديدًا هي واحدة من أهم المداخل لفهم مشاعر العديد من العراقيين إزاء الغزو الأمريكي لبلادهم، حيث أن ما تسببت به سلوكيات النظام السابق على مستوى الوعي للمجتع العراقي أدت إلى أن يكون العديد منهم جاهزون لتقبل الاحتلال الأمريكي لأنها فرصة وحيدة للخلاص من كابوس البعث، دون البحث والتقصي عما إذا كان الاحتلال أجدى أم أمر. إنها لحظة مجنونة كمن يرمي بنفسه في البحر بغية الخلاص من القتل، حيث أن وطنًا يحكمه صدام حسين بالنسبة للعراقيين لم يكن سوى جحيم أرضي لا يمكن احتماله بأي حال من الأحوال. لذا فإن القبول بالاحتلال كان يمثل نوعًا غريبًا من حالات الاحتجاج الجماعي على الظلم والاستبداد، ومدخلًا لفهم تأثير القمع والدكتاتورية على وعي الناس وخياراتهم وكيف تكون نظرتهم عابرة لحدود الداخل، مما يدفعهم لتأييد أي شيء يدمر هذا النظام وإن كانت أمريكا، الداعم الأول لذات النظام في مراحل عديدة سابقة.

كابوس يتضح سريعًا

على الجانب الآخر قامت أمريكا وحلفاؤها في حملتهم الدعائية الموجهة للشرق وتحديدًا للعراقيين، بالعمل على تهميش الأهداف الرئيسية المضمرة، والتركيز على الشخصيات، أي بعبارة أكثر سهولة، لم تتطرق إلى شكل الحرب وتداعيتها على العراق ومستقبله الاقتصادي والسياسي والسلم المجتمعي فيه، والغايات الرئيسية من الحرب، بل عملت على اخفائها بكل الطرق، واستخدمت الشعار التخريبي الدائم "صناعة الديمقراطية". وكان مدخلها الأبرز هو التركيز على وحشية النظام العراقي آنذاك، وإن التخلص منه سيكون بداية عصرًا من عصور الازدهار. 
اقرأ/ي أيضًا: 16 عامًا على "سقوط بغداد".. الخراب أيقونة للماضي والمستقبل

لكن هذه الكذبة سرعان ما انفضحت بشكل جلي لمعظم العراقيين، حيث أنها ابتداءً عملت على تفتيت المجتمع العراقي، وخلقت من صدام متعمدة "رمزًا سنيًا" مقابل الشيعة، وبهذا يخلق مجتمعًا عربيًا معاديًا لشيعة العراق، وفي المقابل تدفع قيادات شيعية عراقية للذهاب نحو مظلة الغرب، كمنقذ من محيط "متوحش" ينبغي على أمريكا حمايتهم منه.

لم تكن لدى العراقيين قبل العام 2003 وتداعيات الحرب، كراهية تجاه المحيط العربي، أو على الأقل ليس بشكلها الحالي، فلا وجود لعناصر جوهرية تتسبب في انشقاق عربي داخلي قبل أحداث العراق، وظهور الانشقاقات الطائفية وتناميها.

وفي جوانب اقتصادية ذات طابع سياسي، كان العراق واحدًا من أهم المداخل للهيمنة الغربية على المنطقة وإعادة الانتشار بعد عام 1991، وقد يقول قائلًا ما هي دلالات ذلك، لكنها واضحة جلية، خاصة في تدخل الأمريكيين بصياغة شكل إدارة موارد اقتصادية لا تتلاءم مع المترسخ في الدولة العراقية منذ عقود طويلة، ما يعني أن الولايات المتحدة لديها إشكالية جوهرية مع شكل الدولة وإدارتها وكيفيات إدارة الموارد فيها، وليس السلطة فقط أو صدام حسين وحده، فضلًا عن أن الحملة لم تكن تهدف فقط إلى جعل العراق منطقة نفوذ أمريكية سياسيًا واقتصاديًا، بل منطلق نفوذ لمناطق أخرى، ومركزًا مهمًا لإدارة الصراع وساحة للتصفية نظرًا لموقعه الجيوسياسي المهم.

العراق منطلق الإسلاموفوبيا

لم تكن حرب احتلال العراق بمعزل عن ترسيخ مفهوم الإسلاموفوبيا عالميًا، ففي المحيط العربي والداخل العراقي كانت الدعاية مختلفة تمامًا عما يتم ترويجه للعالم الغربي، لذا فإن البحث عن ما تم ترويجه غربيًا وما زال هو استخدام خطر الإرهاب ورعايته من قبل النظام آنذاك، وكل الأنظمة خارج النفوذ الأمريكي، وإنها بداية "حرب صليبية" على معاقل محتملة أو حقيقية لإرهابيين إسلاميين، وكان هذا واحدًا من أهم الأسباب التي دفعت أمريكا إلى التصريح ضمنًا بأنها ستستقطب الإرهابيين إلى العراق للقضاء عليهم هناك، وهذا ما نجحت حقًا في ترسيخه على مدى السنوات الماضية.

قد يفترض البعض أن هذا كان سذاجة أو قلة إدراك، تحديدًا من قبل أوساطنا المحلية التي ما تزال تدافع عن الاحتلال الأمريكي، لكن السياسة الأمريكية ومتابعتها تعطينا إشارات عديدة على كون ما حدث كان ممنهجًا، إذ أنك فيما لو استعرضت بداية صناعة التطرف الإسلامي على حدود باكستان- أفغانستان، في عهد ريغان وحماية وتمويل وتضخيم التطرف هناك، ثم العدول بعد أحداث ١١ سبتمبر للقيام بالحملات الأمريكية العسكرية في الشرق.

اليوم صار حديث العالم كله يتمحور حول الإسلام وخطره الوجودي على البشرية، وهذا بالضرورة يعطي زخمًا وتأييدًا لوجود دائم لنفوذ غربي في الدول الإسلامية والعربية، وتبريرًا لاستخدام الوحشية على هذه الشعوب إذا ما تطلب الأمر، وكانت انطلاقة هذا النفوذ الشامل، والحرب متعددة الجبهات هي احتلال العراق، واستقطاب الإرهابيين فيه وما تلاها من موجات عديدة للإرهاب في المنطقة لم تكن تشهدها قبل ذلك.

لكن التساؤل الأهم هنا؛ لماذا هذا الانقسام على توصيف ما حدث في البلاد منذ 16 عامًا؟ إن الإستراتيجية الأمريكية التي غذت الانقسامات والتطرف ما تزال فاعلة جدًا، وهي ذاتها التي تدفع العديد من مؤيدي الفصائل الشيعية التي لا تفوت مناسبة إلا وتلعن فيها أمريكا إلى الاحتفال في هذا اليوم، وهي ذاتها التي تدفع أيضًا مؤيدي مجاميع سنية باتت تتحدث عن ضرورة وجود حماية أمريكية لهم، بالحديث في هذا اليوم عن الاحتلال وأضراره وويلاته.

ذكرى الغزو الأمريكي للعراق فرصة لتذكيرنا بمدى الانقسام وتشظي الهويات الذي غذته الولايات المتحدة بالرغم من ثنائيات الجهل التي تبعد كل شيء يكون في إطار المصلحة الوطنية

في التاسع من نيسان/أبريل من كل عام فرصة لتذكيرنا بمدى انقسامنا وتشظي هوياتنا حتى في أكثر القضايا التي تمس وجودنا ومستقبلنا ومستقبل الدولة عندنا. حيث لا مناص من ثنائيات الجهل، التي تدفع كل جهة باتجاه أبعد ما يكون عن المصلحة الوطنية والتفكير المجدي بها.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

غزو العراق.. تفجير العصبيات بلغم أمريكي!

فقدان السيادة والإفقار.. اقتصاد العراق يشهد على 16 عامًا من خراب الاحتلال