09-أبريل-2019

كانت الحرب الأهلية في العراق نتيجة عن نظام المحاصصة الذي فرضته أمريكا (فيسبوك)

في عمليات الاندماج الاجتماعي تنضج الهويات وتستكمل تشكلها، وهي إذ تستقر في الوعي الاجتماعي حاملة السمات الأساسية التي تميز الجماعة من غيرها، تتحدد ضمن علاقات التماثل والاختلاف وتعكس ارتباط الإنسان بالآخرين وتميزه عنهم في الوقت نفسه.

ما حدث للهوية العراقية بعد الغزو الأمريكي عام 2003 من تشظي وتفتت كان وفق خطط مدروسة في سياق خلق وتغذية صراع الهويات بالشرق الأوسط 

وهي بقدر ما تكون تعريفًا للذات، تكون أيضًا تعريفًا تستدمجه الذات في علاقتها مع الآخر حسب تالكوت بارسونز، واستنادًا إلى إميل دوركاهيم وجورج ميد. ما حدث للهوية العراقية بعد الغزو الأميركي عام 2003 من تشظي وتفتت أدى إلى مآلات خطرة نعاني منها حتى اللحظة. وكان هذا التشظي ضمن خطة مدروسة في سياق صراع الهويات بالشرق الأوسط، حيث كانت الدعوات الأمريكية والإسرائيلية لتقسيم العراق على أساس مذهبي وطائفي انطلقت منذ ما يقارب نصف قرن تقريبًا، لكن بعد الاحتلال بانت نتائج الخطط التدميرية التي كان يحيكها الأمريكان على وجه الخصوص، حيث تجزأ المجزأ وتفتت المفتت وظهرت الهويات الصلبة المتشددة والمتطرفة وصار القتل في الشوارع على الهوية، و في ذات الوقت ظهرت الهويات المقاومة للتوغل الأمريكي وكان منها المتطرف والأقل تطرفًا.

الهويات الصلبة

تمثل اللحظة التاريخية الواضحة "للهويات الصلبة" المحافظة والمتشددة، ذات الطابع الديني والأثني على مستوى العالم، نقطة عنيفة فارقة في مسار توحش النظام العالمي الجديد وسعيه الدؤوب لإدامة الإقصاء والهيمنة وإعادة ترسيم الخرائط الهوياتية والقومية من جديد. تجسد ذلك في أبشع مظاهره في غزو العراق من قبل أمريكا. هذا الغزو البربري الكارثي لم تتوقف فصوله في تداعيات متصاعدة على وقع مقاربة غربية وجدت في استراتيجية مكافحة الإرهاب طريقة ملائمة لحفظ استقرار النظام العالمي الجديد، لكنها عمليًا لم تؤدِ إلا إلى المزيد من الإرهاب على مستوى المنطقة والعالم، ذلك أنها تعاملت مع النتائج لا المسببات، بالبواعث لا الجذور، بل حتى وهي تتعامل مع النتائج لم تفرق بين الحركات المطالبة بحق تقرير المصير والمدافعة عن هويتها، وبين الإرهاب الأعمى، حتى صار لأمريكا وأعوانها إرهابًا تحاربه وآخر ترعاه، سواء صدر عن دول أم عن منظمات وشبكات.

دعوات التقسيم بطابع طائفي

في عام 1973 بدأت دعوات التقسيم للمنطقة العربية بشكل عام وللعراق بشكل خاص، حيث قدم المفكر الاستراتيجي ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر مشروعًا للتقسيم في هذا العام، وتجدد الحديث عنه عام 1983 يتضمن تقسيم جميع دول المنطقة العربية على أسس طائفية، ذلك فيما كانت مجلة كيفونيم الإسرائيلية قد نشرت في 14 شباط/فبراير 1982 خطط إسرائيل لتقسيم العراق وسوريا، واعتبرت المجلة أن العراق أشد خطرًا على إسرائيل من بقية الدول مؤكدة أن أفضل طريقة لتمزيقه هو إثارة الصراع الدموي بين مكوناته.

في عام 1983 تناقلت الصحف المصرية تقارير عن خريطة قدمت للكونگرس الأمريكي لتقسيم المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص. هذه الخريطة قدمها الصهيوني البريطاني برنارد لويس، وتتضمن خريطته أن يقسم العراق إلى ثلاث دويلات: دولة شيعية في الجنوب ودولة سنية في الوسط ودولة كردية في الشمال العراقي والشمال الشرقي من إيران وغرب سوريا وجنوب تركيا.

وقبل مطلع التسعينيات دعا أستاذ القانون الأمريكي والمستشار في البيت الأبيض آلان توبول، من خلال موقع إلكتروني تابع للجيش الأمريكي إلي الإسراع بتقسيم العراق، قائلًا إن "عدد دول العالم حاليًا 193 دولة وليست هناك مشكلة إذا أصبحت 196 دولة، في إشارة إلى 3 دويلات ناتجة من تقسيم العراق.

وبعد غزو 2003 كُتب الدستور الهجين الذي وضع مسودته الصهيوني نوح فيلدمان، حيث كان هذا الدستور مصدرًا لتفتيت الهوية الوطنية وهدمها، عن طريق زرع بذرة المحاصصة في أساس الدولة العراقية، وكان داعمًا للتقسيم الذي يقوم على أساس طائفي وعرقي وأثني. جاء في  المادة (119) من الدستور:

يحق لكل محافظةٍ أو أكثر، تكوين إقليمًا بناءً على طلب بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى طريقتين:

أولًاـ طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم.

ثانيًاـ طلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم.

وبالطبع، نحن لسنا مع المركزية المطلقة، لكن في واقع العراق ونظامه التوافقي تكون الأقاليم مقدمة للانفصال، ولنا تجربة مع إقليم كردستان، حيث لا يوجد نظام اقتصادي رصين ولا هوية سياسية متكاملة للدولة، إنما تقسم الدولة على جماعات طائفية وعرقية وقبلية، ومن هذه المادة تنطلق بعض المحافظات العراقية اليوم لتطالب بإقليم، مثل البصرة التي هي عصب العراق الاقتصادي.

إن دستور ما بعد 2003 كان مصدرًا لتفتيت الهوية الوطنية وهدمها، عن طريق زرع بذرة المحاصصة في أساس الدولة العراقية، وكان داعمًا للتقسيم الذي يقوم على أساس طائفي وعرقي وأثني

عادت الدعوة إلى التقسيم الطائفي بعد حقبة الغزو بقليل، وأبرز من دعا للفكرة، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق أيضًا هنري كيسنجر، ففي آذار/مارس 2006 قال إن "المصير الذي ينتظر العراق سيكون مشابهًا لمصير يوغوسلافيا السابقة".

وفي أوائل أيار/مايو من عام 2005 دعا أيضًا السيناتور الديمقراطي جوزيف بايدن والرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية لزلي غيلب إلى تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق تتمتع كل منهما بالحكم الذاتي، وفي فترة متقاربة أعلنت كذلك السيناتورة الجمهورية، كيلي بايلي هوتجيسون عن رأيها في تقسيم العراق، معتبرة أنه "المخرج الوحيد أمام القوات الأمريكية من المستنقع العراقي".

هذه الاستراتيجية "صنع الهزيمة من الداخل" التي يتبعها الأمريكان تجاه العراق، والعمل على تهشيم الهوية الوطنية وتنمية الهويات المناطقية والطائفية. فيما يعتبر بعد الاحتلال صناعة الهوية الوطنية الجامعة في كل الأحوال هو من أخطر المشاريع على النظام الأمريكي، لأنه نظام لا يريد أن تقوم ديمقراطيات راسخة في وجود كيان اسمه "إسرائيل".

الهويات المقاومة

في مقابل الهويات المشرعنة التي صاغتها أمريكا وقوى الاستكبار العالمي تشكّلت هويات مقاومة للشعب العراقي الذي جرى تمزيقه واقتسامه خلافًا لإرادته، وهذه الهويات تأسست على معارضة الخضوع والإقصاء في نظام عالمي يعمل على تذويبها أو ترويضها في فضاء الهويات المقاومة نشأت أشكالًا متنوعة من الاعتراض، منها ما عبر عن نفسه كهويات ناعمة مستأنسة وموادعة، بمعنى أنها بقيت هويات صامتة وكامنة، لكنها تحرض على إعادة إنتاج نفسها، وبعضها الآخر عبر عن نفسه كهويات صاخبة ومشاغبة متخذة الطابع الشعبوي، أو الوطني المتلازم مع حركة دينية.

الهويات المقاومة بشكل عام استندت إلى إرث ثقافي محلي عميق الجذور، استعصى عمليًا على كل محاولات الاستلاب، ولكنه رغم كل ذلك أفضى إلى تشويه سيرورة تطورها وتشكلها الحديث، بل أدى عمليًا بفعل توحش أمريكا وحلفائها وأفراطهم في عمليات الإقصاء ودعم الاستبداد والهيمنة في مرحلة الغزو، ثم بفعل انفلات النزعة المادية الرأسمالية من أي معايير سبق وإن صاغتها الثقافة الليبرالية حول حقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعوب، إلى تمحور الهويات المقاومة حول "النواة الصلبة" في بنيتها الثقافية، فطغت عليها الأصولية الدينية المتشددة التي أضرت بها، والتي بدورها قللت مساحة احتضان الشارع لها. إن عنف النظام الدولي وتوحشه ولد بالمقابل هذه الهويات الصلبة، المتشددة والمتطرفة، بل والقاتلة في بعض الأحيان.

الحصيلة اليوم من هذا كله عصبيات انفجرت، وهويات طائفية وقبلية وأثنية تضخمت على حساب الدولة وتحولت إلى سياج لا يسمح للعقل بأن يخترقها و لا للـ"جماعات" بالخروج من طوقه بوجود نظام يعزز من وجودها في المجال السياسي.

كانت حصيلة الغزو الأمريكي انفجار عصبيات وهويات طائفية وقبلية وإثنية تضخمت على حساب الدولة في نظام يعزّز من وجودها في المجال السياسي

 الهويات المتشظية في الوطن العربي على وجه العموم والعراق خصوصًا أطاحت بالهوية الجامعة وأصبحت محرك العقل الجمعي، وهي أصابته في صميم بنيته، حيث وقعت أنظمة ومنظمات في فخ الوعي الهوياتي الطائفي والتي يتغذى في فضائها الخطاب الديني والأثني المتشدد والمتطرف، الذي يشيطن الآخر متناغمًا بذلك مع مقولة صدام الحضارات وانقسام العالم إلى محوري الشر والخير.